مقـــدمة
إن سفر يونان النبى مملوء بالتأملات الروحية الجميلة ، نعرض لهذا السفر من الناحية الروحية البحتة وليس من جهة الجدل اللاهوتى .
سبيلنا هو الأستفادة وليس النقاش
. نريد أن نأخذ من هذا السفر الجميل دروسا نافعة لحياتنا . نستفيد من عمل الله ، ومن فضائل الناس ، ومن أخطائهم .
وما أجمل ما فعلته الكنيسة إذ اختارت هذا السفر ليكون مقدمة للصوم الكبير ، يسبقه بأسبوعين ، بقصة جميلة للتوبة ، وللصوم حتى نستقبل أيام الأربعين المقدسة بقلب نقى ملتصق بالرب .
والعجيب أن كثيرين من الذين يدرسون سفر يونان ، يركزون على أهل نينوى وصومهم وينسون ركاب السفينة ، وينسون يونان النبى ومشكلته
. فماذا كانت مشكلة يونان ؟
مشكلة يونـــان أن الله فى سفر يونان النبى ، يريد أن يعرفنا حقيقة هامة هى أن الأنبياء ليسوا من طبيعة أخرى غير طبيعتنا ، بل هم أشخاص " تحت الآلام مثلنا " يع 5 : 17 .
لهم ضعفاتهم ولهم نقائهم وعيوبهم ، ومن الممكن أن يسقطوا كما نسقط . كل ما فى الأمر أن نعمة الله عملت فيهم ، وأعطتهم قوة ليست هى قوتهم وإنما هى قوة الروح القدس العامل فى ضعفهم ، لكى يكون فضل القوة لله وليس لنا كما يقول الرسول ( 2 كو 4 : 7 )
وقد كان يونان النبى من " ضعفاء العالم " الذين اختارهم الرب ليخزى بهم الأقوياء ( 1 كو 1 : 27 ) . كانت له عيوبه ، وكانت له فضائله . وقد اختاره الرب على الرغم من عيوبه ، وعمل به ، وعمل فيه ، وعمل معه وأقامه نبيا قديسا عظيما لا نستحق التراب الذى يدوسه بقدميه . لكى يرينا بهذا أيضا أنه يمكن أن يعمل معنا ويستخدم ضعفنا ، كما عمل مع يونان من قبل ..
+ سقطات فى هروب يونان :
سنرى بعضا من ضعف يونان فى موقفه من دعوة الرب ، يقول الكتاب : " وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاى قائلا : قم أذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ، وناد عليها ، لأنه قد صعد شرهم أمامى . فقام يونان ليخرج إلى ترشيش من وجه الرب . فنزل إلى يافا ، فوجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش ، فدفع أجرتها ، ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب "
وهنا نرى يونان النبى وقد سقط فى عدة أخطاء ،
وكانت السقطة الأولى له هى المخالفة والعصيان .
+ لم يستطع أن يطيع الرب فى هذا الأمر ، وهو النبى الذى ليس له عمل سوى أن يدعو الناس إلى طاعة الرب . عندما نقع فى المخالفة ، يجدر بنا أن نشفق على المخالفين . واضعين أمامنا قول الرسول : " اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون أيضا مثلهم ... " ( عب 13 : 3 ) .
+ على أن سقطة المخالفة التى وقع فيها يونان ، كانت تخفى وراءها سقطة أخرى أصعب وأشد هى الكبرياء ممثلة فى الأعتزاز بكلمته ، وترفعه عن أن يقول كلمة وتسقط إلى الأرض ولا تنفذ ...
كان اعتزازه بكلمته هو السبب الذى دفعه إلى العصيان ، وحقا أن خطية يمكن أن تقود إلى خطية أخرى ، فى سلسلة متلاحمة الحلقات .
كان يونان يعلم أن الله رحيم ورؤوف ، وأنه لا بد سيعفو عن هذه المدينة إذا تابت . وهنا سبب المشكلة !
وماذا يضيرك يا يونان فى أن يكون الله رحيما ويعفو ؟
يضيرنى الشىء الكثير : سأقول للناس كلمة ، وكلمتى ستنزل إلى الأرض
+ إلى هذا الحد كان يونان متمركزا حول ذاته ! لم يستطع أن ينكر ذاته فى سبيل خلاص الناس
. كانت هيبته وكرامته وكلمته ، أهم عنده من خلاص مدينة بأكملها ..! كان لا مانع عنده من أن يشتغل مع الرب ، على شرط أن يحافظ له الرب على كرامته وعلى هيبة كلمته
.. من أجل هذا هرب من وجه الرب ، ولم يقبل القيام بتلك المهمة التى تهز كبرياءه ...
وكان صريحا مع الرب فى كشف داخليته له إذ قال له فيما بعد عندما عاتبه : " آه يا رب ، أليس هذه كلامى إذ كنت بعد فى أرضى ، لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش ، لأنى علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطىء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر " ( 4 : 2 ) .
+ وكان هرب يونان من وجه الرب يحمل فى ثناياه خطية أخرى هى الجهل وعدم الإيمان هذا الذى يهرب من الرب ، إلى أين يهرب ، والرب موجود فى كل مكان ؟!
صدق داود النبى حينما قال للرب : " أين أذهب من روحك ؟ ومن وجهك أين أهرب ؟ ... ( مز 139 : 7 – 10 ) . أما يونان فكان مثل جده آدم الذى ظن أن يختفى من وجه الرب وراء الشجر ... حقا إن الخطية تطفىء فى الإنسان نور المعرفة ، وتنسيه حتى البديهيات !
وجد يونان فى يافا سفينة ذاهبة إلى ترشيش ، فدفع أجرتها ، ونزل فيها .. والعجيب أن الخطيئة كلفته مالا وجهدا . دفع أجرة للسفينة ليكمل خطيته .. أما النعمة فننالها مجانا ..
عندما دفع يونان أجرة السفينة خسر خسارة مزدوجة : خسر ماله ، وخسر أيضا طاعته ونقاوته ..
العجيب أن الله استخدم عصيان يونان للخير
. حقا إن الله يمكنه أن يستخدم كل شىء لمجد اسمه .. اللــه يستخدم الكل
لقد عصى يونان أمر الرب ، وهرب راكبا السفينة ، ولكن الله الذى " يخرج من ىلآكل أكلا ومن الجافى حلاوة " ( قض 14 : 14 ) ، الله الذى يستطيع أن يحول الشر إلى خير استطاع أيضا أن يستفيد من عصيان يونان ... إن كان بسبب طاعة يونان سيخلص أهل نينوى ، فإنه بعصيان يونان يمكن أن يخلص أهل السفينة !!
وكأن الله يقول له : هل تظن يا يونان أنك قد هربت منى ؟ كلا . أنا سأرسلك إلى ركاب السفينة ، ليس كنبى ، ولا كمبشر ، ولا كصوت صارخ يدعو الناس إلى التوبة ، وإنما كمذنب وخاطىء وسبب إشكال وتعب للآخرين ، وبهذه الصورة سأخلصهم بواسطتك .
هل ركبت البحر فى هروبك يا يونان ؟ إذن فقد دخلت فى دائرة مشيئتى أيضا . لأننى أملك البحر كما أملك البر ، كلاهما من صنع يدى . وأمواج البحر ومياهه وحيتانه تطيعنى أكثر منك كما سترى .
طاعة غير العاقلين
لقد أخجل الرب يونان النبى بطاعة أهل نينوى ، وببر أهل السفينة وإيمانهم ، وأيضا بطاعة الجمادات والمخلوقات غير العاقلة . ومن الجميل أننا نرى كل هؤلاء فى ارساليات إلهية وفى مهمات رسمية أدوها على أكمل وجه وأفضله . فما هى هذه الكائنات غير العاقلة التى كانت عناصر نافعة فى إتمام المشيئة الإلهية ؟
+ " فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر ، فحدث نوء عظيم فى البحر حتى كادت السفينة تنكسر " ( 1 : 4 ) . لقد أدت الريح واجبها ، وكانت رسولا من الرب ، قادت الناس إلى الصلاة ، فصرخ كل واحد إلى إلهه .
+ وكما أدت هذه الريح الشديدة مهمتها فى أول القصة كذلك أدت مهمة أخرى فى آخر القصة ، إذ يقول الكتاب : " وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحا شرقية حارة ، فضربت الشمس على رأس يونان فذبل فطلب لنفسه الموت .. " ( 4 : 8 ) .
+ وكما استخدم الله الريح ، استخدم الحوت أيضا لتنفيذ مشيئته : وفى ذلك يقول الكتاب أول :ا " وأما الرب فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان ، فكان يونان فى جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال " ( 1 : 17 ) .
ثم يعود فيقول " وأمر الرب الحوت ، فقذف يونان إلى البر " ( 2 : 10 ) . وهكذا كان الحوت ينفذ أوامر إلهية تصدر إليه ، وينفذها بدقة وحرص حسب مشيئة الرب .
+ وكما استخدم الله الريح والحوت ، استخدم الشمس والدودة واليقطينة .
ويقول الكتاب : " فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان ... " ( 4 : 6 ) .
ويقول : " ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر فى الغد ، فضربت اليقطينة فيبست " ( 4 : 7 )
وأيضا : " الله أعد ريحا شرقية حارة فضربت الشمس على رأس يونان " ( 4 : 8 ) .
فى سفر يونان كانت كل هذه الكائنات مطيعة للرب ، الوحيد الذى لم يكن مطيعا هو الإنسان العاقل ، يونان ..... الذى منحه الله حرية ارادة يمكنه بها أن يخالفه ! .
هكذا الإنسان ، أما باقى الكائنات فلا تعرف غير الطاعة . على أنه لم يكن كل إنسان غير مطيع فى سفر يونان ، بل كل الناس أطاعوا ، ما عدا يونان ؛ النبــى !! على أن يونان لم يهرب من المهمة اشفاقا على نينوى ، من الهلاك ، بل على العكس هرب خوفا من أن تبقى المدينة ولا تهلك ...
لم يتشفع فيها كإبراهيم عندما تشفع فى سدوم . بل أنه حزن واغتاظ واغتم غما شديدا ، ورأى أن الموت هو أفضل لنفسه من الحياة ، كل ذلك لأن الله لم يتمم انذاره ويهلك المدينة
أراد الله للبحر أن يهيج فهاج ، وأراد له أن يهدأ بعد القاء يونان فيه فهدأ ... ما أعجب الطبيعة المطيعة التى لا تعصى لله أمرا ، كالإنسان .
+ وكما أمر الحوت الضخم الكبير لكى ينفذ جزءا من الخطة الإلهية ، كذلك أمر الدودة البسيطة أمرها أن تضرب اليقطينة فيبست ... مأ أعجب هذا أن نرى حتى الدودة تكون جزءا من العمل الإلهى المقدس الكامل ... حقا ما أجمل قول الكتاب : " انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار " متى 18 : 10 .
ليتنا نأخذ درسا من كل هؤلاء وندرك نحن أيضا عمق عبارة " لتكن مشيئتك " فى حياتنا وحياة الناس . هذه العبارة التى فشل يونان فى ممارستها ، ولم يستطع أن يصل إليها إلا بعد تجارب كثيرة وصراع مع الله ، وعقوبات ، واقناعات ... أخيرا استطاع الله أن يقنعه بخيرية المشيئة الإلهية ، مهما كانت مخالفة لمشيئته الذاتية .
+ + +
بحارة أمميــــون كانوا أفضل من النبى
ما أعجب أهل هذه السفينة التى ركبها يونان .. حقا كانوا أممين ، ومع ذلك كانت لهم فضائل عجيبة فاقوا بها النبى العظيم . وفيهم تحقق قول الرب " ولى خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ، ينبغى أن آتى بتلك أيضا فتسمع صوتى . وتكون رعية واحدة وراع واحد " ( يو 10 : 16 ) .
يذكرنى أهل هذه السفينة بكرنيليوس قائد المائة ، الذى كان فى مظهره رجلا أمميا بعيدا عن رعوية الله ، ولكنه كان فى حقيقته رجلا تقيا خائفا الله هو وجميع بيته .
لعله تدبير الهي أن ينزل يونان فى هذه السفينة بالذات ، من أجله ومن أجل هذه السفينة .. لم يشأ الله أن يمضى إلى كورة بعيدة .
فضائل أهل السفينة
+ أول صفة جميلة فى بحارة هذه السفينة أنهم كانوا رجال صلاة .
يقول الكتاب : " فخاف الملاحون ، وصرخوا كل واحد إلى إلهه ، وطرحوا الأمتعة التى فى السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم " ( 1 : 5 ) .
نلاحظ هنا أنهم لجأوا إلى الله قبل تنفيذهم ما تتطلبه الحكمة البشرية لإنقاذ الموقف
. صلوا أولا ثم ألقوا الأمتعة ليخففوا عن السفينة ,.... كان كل بحارة السفينة وركابها يصلون ، والوحيد الذى لم يكن يصلى فى ذلك الوقت هو نبى الله يونان !!
وحتى بعد أن أيقظوه ، لم يقل الكتاب أنه قام وصلى !
إنه موقف مخجل حقا .. عجيب حقا هو الرب إذ يبكت أحد أنبيائه برجل أممى
: " مالك نائما " .. ما هذا الكسل والتراخى واللامبالاه ؟! ألا تقوم وتصلى كباقى الناس ؟ " قم أصرخ إلى إلهك ، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك " ... كيف خالف الله ، وكسر وصيته وهرب منه ، واستطاع أن ينام نوما ثقيلا ؟! لا بد أن ضميره كان قد نام أيضا ، نوما ثقيلا ، مثله ...
+ صفة جميلة ثانية نجدها فى أهل السفينة أنهم كانوا يبحثون عن الله .
لم يقولوا ليونان فى تعصب لديانتهم " قم اصرخ إلى إلهنا " . وإنما قالوا له " قم أصرخ إلى إلهك ، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك " .. وهذا يدل على أنهم كانوا يبحثون عن الله ..
+ صفة جميلة ثالثة وهى أنهم كانوا رجال بساطة وإيمان .. لم يكتفوا بالصلاة ، وإنما أيضا ألقوا قرعة ... فى تقواهم كانوا يشمئزون من بشاعة الخطية ويشعرون أنها سبب البلايا التى تحيق بالإنسان ..
+ كانوا أيضا أشخاصا عادلين لا يحكمون على أحد بسرعة ، بل إتصفوا بطول الأناة وبالفحص وإرضاء الضمير ..
أما يونان فاعترف لهم وقال : " أنا عبرانى ، وأنا خائف من الرب إله السماء الذى صنع البحر والبر ، وبمجرد سماعهم ذلك الكلام خافوا خوفا عظيما ..
هل إلهك يا يونان هو إله البحر والبر ؟ نحن الآن فى البحر ، إذن فنحن فى يد إلهك أنت ... ونحن نريد الوصول إلى البر .. وإلهك هو إله البر أيضا ، كما هو إله البحر ، إذن فنحن فى يديه .
لذلك خافوا ووبخوه قائلين : " لماذا فعلت هذا ؟! "
وللمرة الثانية يتبكت النبى العظيم من الأمميين .
+ وكما كان ركاب السفينة عادلين ، كانوا أيضا فى منتهى الرحمة والشفقة : كانوا يوقنون أنه مذنب ويستحق الموت ، ومع ذلك لم يكن سهلا على هؤلاء القوم الرحماء ، أن يميتوا إنسانا حتى لو كان هو السبب فى ضياع متاعهم وأملاكهم وتهديد حياتهم بالخطر ..
قال لهم يونان : " خذونى واطرحونى فى البحر ، فيسكن البحر عنكم ، لأنى عالم أنه بسببى هذا النوء العظيك عليكم " ... لقد بذلوا كل جهدهم لإنقاذ الرجل الخاطىء من الموت ، ولكن دون جدوى
. كانت مشيئة الرب أن يلقى يونان فى البحر .. وهكذا أسقط فىأيديهم ، ولكن لكى يريحوا ضمائرهم ، صرخوا إلى الرب وقالوا " آه يارب ، لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل . ولا تجعل علينا دما بريئا ، لأنك أنت يارب فعلت كما شئت "
وإذ تحققوا أن هذه هى مشيئة الله ، وأنهم لا يستطيعون أن يقفوا ضد مشيئته ، " أخذوا يونان وطرحوه فى البحر ، فوقف البحر عن هيجانه " ....
+ من كل ما سبق يتضح أن هؤلاء البحارة كان لهم ضمير حساس نقى ، وأنهم أرادوا بكل حرص أن يقفوا أمام ضميرهم بلا لوم .
+ كانت لهؤلاء الناس قلوب مستعدة لعمل الله فيها : كانوا يتلمسون إرادة الله لتنفيذها . ولما وقف هيجان البحر بإلقاء يونان فيه ، تأكدوا من وجود الله فى الأمر ، فآمنوا بالرب ، وذبحوا له ذبيحة ، ونذروا له نذورا .. وفى إيمانهم بالرب لم يؤمنوا فقط أنه هو الرب ، وإنما بتقديمهم للذبيحة أعلنوا أيضا إيمانهم بالدم والكفارة ..
وهكذا كسب الله المعركة الأولى ، وتمم خلاص أهل السفينة بعصيان يونان بقيت فى خطة الله للخلاص مسألتان هامتان أخريان : وهما خلاص أهل نينوى ، وخلاص يونان .
+ + +
2
تأملات فى سفر يونان النبى
يونان فى بطن الحوت
أُلقى يونان فى البحر ، ولكنه لم يلق للموت .. كانت الإرادة الإلهية ما تزال ممسكة به ، والله ما يزال عند خطته أن يرسل يونان إلى مدينة نينوى لإنقاذها ...
+ وهل ما يزال هذا الإنسان يارب يصلح لهذه الخدمة الكبيرة بعد كل ما صدر منه ؟
نعم ، إن يونان هذا هو ابنى وحبيبى ، ونبيى أيضا ، وسأرسله إلى نينوى
. إن كان قد أخطأ فإنى سأصلحه ، وأجعله صالحا للخدمة ، وأنقذ نفسه ، وأنقذ المدينة به .. هذا الحجر غير المصقول سأتعهده بالنحت ، حتى أجعله صالحا للبناء ...
حقا إن الله عجيب فى طول أناته
. لا يغضب ولا يتخلى بسرعة عن خدامه الذين يخطئون عندما ألقى يونان فىالبحر ، تلقفته الأيدى الإلهية ، وحملته فى رفق لكى لا يهلك ، ولكى لا يغرق ، أخذه الله ووضعه فى جوف حوت ، ليحفظه آمنا هناك ...
كان الله قد " أعد حوتا عظيما ليبتلع يونان " ( 1 : 17 ) . لم يعده للإهلاك ، وإنما للحفظ .. لم يكن الحوت عقوبة وإنما كان صونا . كان يونان فى بطن الحوت أكثر امنا وراحة مما لو ظل فى البحر ، يكافح الأمواج ، ويكافح البحر ، ويكافح التعب والبرد والريح ..
كان هذا الحوت مرسلا من الله ، لينقذ الإرادة الإلهية التى كلف بها .
لم يكن له سلطان أن يأكله أو يفرز عليه عصارات ويحلله ويمتصه
. كلا ، بل ابتلعه ليدخله إلى أحضانه الداخلية ، ويحفظه حتى يصل إلى قرب هدفه . كان وسيلة مواصلات مجانية يصل بها يونان إلى أقرب مكان من محطة النزول .
كأن يونان كان فى غواصة حصينة تمخر به البحر وهو فى جوفها تحت الماء ..
كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام سليما لا يقوى عليه الحوت . كما كان المسيح فى القبر ثلاثة أيام سليما لا يقوى عليه الموت . هكذا أنت أيها الأخ المبارك ، ان أعد الله حوتا عظيما ليبتلعك ، فلا تخف ، ولا تتضايق ولا تحزن ، بل بارك الرب داخله كما فعل يونان .
حاذر أن تشكو كلما ابتلعك حوت ، فالحيتان فى بحر هذا العالم كثيرة ..
كان ذلك الحوت ضخما جدا ، كان حوتا عظيما .. وجد يونان نفسه فى بركة ماء فماذا يعمل ؟ رجع إلى عقله .. وركع وصلى فى جوف الحوت .. ونظر إليه الرب وابتهج : آه يا يونان ، اننى أريد منك هذه الصلاة من بداية القصة ، كل ما حدث كان القصد منه أن أجعلك تركع ، ولو فى جوف حوت ، لنتفاهم .... أخذ يونان صورته الأولى كإنسان مطيع محب لله ، مؤمن جدا بوعوده
. رجع كما كان يثق بالله ويشكره ...
إن صلاة يونان وهو فى جوف الحوت ، مؤثرة جدا ، تتسم بروح النبوة وبالإيمان العجيب " والإيقان بأمور لا ترى " ....
يقول قداسة البابا شنودة الثالث : إنها من أعظم الصلوات التى قرأتها فى حياتى
.. ليته كان قد قدمها ، أو قدم صلاة من نوعها قبل أن يفكر فى الهروب من الرب .. حقا أن الضيقات هى مدرسة للصلاة ...
لقد تأثرت كثيرا بقوله " دعوت من ضيقى الرب فاستجابنى " . وقلت فى نفسى : ما هذا يا يونان ؟ كيف استجابك وأنت ما تزال فى جوف الحوت ؟! أما كان الأجدر أن تقول " دعوت يارب فى ضيقى فاستجبنى " فتطلب هذه الأستجابة لا أن تعلنها ؟! .
لكن يونان يرى بعين الإيمان ما سوف يعطيه له الرب
. يراه كأنه قائم أمامه ، وليس كأنه سيأخذه فيما بعد ، فيفرح قائلا " دعوت ... فأستجابنى " .
ويستمر يونان فى صلاته العجيبة ، فيقول للرب " صرخت من جوف الهاوية ، فسمعت صوتى .. جازت فوقى جميع تياراتك ولججك . ولكننى أعود أنظر إلى هيكل قدسك " ... بهذا الإيمان رأى يونان نفسه خارج الحوت ، ينظر إلى هيكل الرب ...
وبهذا الإيمان استطاع أن يحول صلاته من طلب إلى شكر ، وهو ما يزال بعد فى جوف الحوت العظيم .. فختم صلاته بقوله " أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك ، وأوفى بما نذرته . للرب الخلاص " ( 2 : 9 ) .
كيف تأكدت أيها النبى القديس من أن الرب قد سمع صوتك ، وقد استجابك ، وقد سمح أن تخرج من بطن الحوت ، وتعود مرة أخرى تنظر إلى هيكله ؟؟ أين منك هذا الهيكل وهو بعيد فى أورشليم ، بينما أنت فى جوف الحوت ، فى مكان ما من البحرلا تستطيع تحديده ؟
! ولكن النبى يجيب : أنا واثق تماما أننى سأخرج من بطن الحوت ، وأكمل رسالتى ، لأن كلمة الله لا تسقط ولا ترجع فارغة .
عجيب جدا هذا الرجل فى إيمانه ، إنه حقا رجل الإيمان العميق الذى اختاره الرب
... لا ننكر أن ضبابا قد اكتنفه فأخطأ إلى الله ، ولكن عنصره ما يزال طيبا .
إنه يرى المستقبل الملىء بالرجاء قائما كأنه الحاضر ، ويشكر الرب على خلاص لم ينله بعد من جهة الزمن ، ولكنه قد ناله فعلا من جهة الكشف الخاص بموهبة النبوة ، الخاص بالرجل المفتوح العينين ، الذى يرى رؤى الرب كأنها فى كتاب مفتوح ، ويتمتع بمواعيده قبل أن تأتى ...
وإذ وصل ايمان يونان إلى هذا الحد العجيب ، أمر الرب الحوت فقذفه إلى البر ..
كان سير هذا الحوت بإحكام عظيم ، وفق خطة إلهية مدبرة تدعو إلى الأطمئنان ، ظهر فى الوقت المناسب ، وفى المكان المناسب ، لكى يحمل يونان فى داخله كما لو كان هذا النبى ينتقل من سفينة مكشوفة يمكن للأمواج أن تغطيها وتغرقها ، إلى سفينة مغلقة محصنة لا تقوى عليها المياة ولا الأمواج . وفى الوقت المناسب قذف يونان إلى البر فى المكان الذى حدده الرب لنزوله . ثم جاز مقابله بعد أن أدى واجبه نحوه على أكمل وجه ... هنيئا لك يا يونان هذه الغواصة البديعة ، التى عشت فى أحضانها فترة ، أعادتك إلى طقسك وإلى رسالتك ...
نقلب هذه الصفحة من قصة يونان ، كأنها لم تحدث ، وكأن هذين الإصحاحين الأولين من السفر قد نسيهما الرب ، فعاد يقول ليونان مرة أخرى
" قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ، وناد عليها المناداه التى أنا مكلمك بها ... "
+ + +
3
تأملات فى سفر يونان النبى
نينوى المدينة العظيمة
يونان يذهب إلى نينوى ، ولكن ... أصدر الله ليونان نفس الأمر القديم " قم اذهب إلى نينوى ... " ، وفى هذه المرة لم يهرب من وجه الرب ، بل " قام وذهب إلى نينوى حسب أمر الرب " .
وتم الأمر فى هدوء : الله لم يعاتب ، ويونان لم يعارض .. ولعل هذا الأمر يحتاج منا إلى وقفة تأمل ...
الله لم يغضب من موقف يونان ، بحيث يحرمه من الخدمة ، أو يسقطه من درجة النبوة إلى درجة المؤمن العادى ، أو يبحث عن غيره ليرسله ...
أما يونان فكان قد تلقى درسا ، فأطاع ... ولكن أتراها كانت طاعة عن اقتناع ورضى أم هى مجرد خضوع ؟
هوذا أنت ذاهب يا يونان إلى نينوى .. فماذا عن العوائق السابقة التى كانت تمنعك فى المرة الأولى ؟ ماذا عن كرامتك ؟ وماذا عن كلمتك التى ستقولها ثم لا ينفذها الرب ، إذ تتوب المدينة ويرجع الرب عن تهديده لها ؟ هل فكرت فى كل ذلك ، وهل مات الوحش الذى فى أحشائك ، وحش الكرامة والأعتزاز بالكلمة ؟
فى هذه المرة كان يونان سيطيع ، وكفى . كان سيطيع من الخارج ، أما من الداخل فما تزال كرامته لها أهمية عنده . سيضغط على نفسه من أجل الطاعة . وسينتظر ماذا سيفعل الرب .
فى هذه المرة تقابل مع الله فى منتصف الطريق
كانت محبة الكرامة ما تزال تتعبه ، ولكنه أطاع خوفا من التأديب ، وليس عن إيمان وتواضع .
نينوى المدينة العظيمة عجيب هذا اللقب" المدينة العظيمة " الذى أطلقه الرب على نينوى !! قاله الرب مرتين ليونان " قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة " ( 1 : 2 ، 3 : 2 ) . وهذا التعبير " المدينة العظيمة " كرره الوحى للمرة الثالثة بقولـه " وأما نينوى فكانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاثة أيام " ( 3 : 3 ) . وتكرر هذا اللقب للمرة الرابعة فى آخر السفر .. ( 4 : 11 ) .
ما أعجب هذا ، أن يلقبها الرب أربع مرات بالمدينة العظيمة ، بينما كانت مدينة أممية ، جاهلة لا يعرف أهلها يمينهم من شمالهم ، تستحق أن ينادى عليها النبى بالهلاك ، وهى خاطئة قد صعد شرها أمام الرب
. وليس فيها من جهة المقياس الروحى أى مظهر من مظاهر العظمة !!
أكان هذا تنازلا من الرب فىاستخدام الأسلوب البشرى ، فسماها عظيمة ، على اعتبار أنها عاصمة لدولة ، وتضم أكثر من 120 ألفا من السكان ؟
أم أن الله رآها باعتبار ما سوف تصير إليه فى توبتها وفى عظمتها المقبلة ، كأممية توبخ اليهود ، كما قال عنها الرب " إن رجال نينوى سيقومون فى يوم الدين مع هذا الجيل ويدينونه ، لأنهم تابوا بمناداة يونان . وهوذا أعظم من يونان ههنا " ( متى 12 : 41 )
إن تسمية الرب لنينوى بالمدينة العظيمة درس نافع للذين يسلكون بالحرف ، ويدققون فى استخدام الألفاظ تدقيقا يعقدون به كل الأمور ، ويخضعون به الروح لفقه الكلمات !!
أمر الله يونان النبى أن ينادى على نينوى بالهلاك ، ولكنه كان فى نفس الوقت يدبر لأهلها الخلاص
.. كان يحبهم ويعمل على إنقاذهم دون أن يطلبوا منه هذا ..
إن سفر يونان يعطينا فكرة عميقة عن كراهية الله للخطية ، ولكنه فى نفس الوقت يشفق على الخطاة ويسعى لخلاصهم .
وانقاذ الله لنينوى يعطينا فكرة عن اهتمام الله بالأمم ، إذ كان اليهود يظنون أن الله لهم وحدهم ، وأنهم وحدهم الذين يتبعونه ويعبدونه ، وهم شعبه وغنم رعيته ، فأراهم الله فى قصة نينوى أن له خرافا أخر ليست من تلك الحظيرة .
عظمة نينوى فى توبتها عندما وصف الله نينوى بأنها مدينة عظيمة ، لم يكن ينظر إلى جهلها وخطيئتها ، إنما كان ينظر فى فرح شديد إلى عمق توبتها .
+ كانت نينوى سريعة فى إستجابتها لكلمة الرب ... بعكس أهل سدوم الذين استهزأوا بلوط عندما دعاهم للتوبة ( تك 19 : 14 ) .
إنهم أعظم بكثير من اليهود الذين عاصروا السيد المسيح – الذى هو أعظم من يونان بما لا يقاس – ورأوا معجزاته العديدة ...
+ كانت كلمة الرب لأهل نينوى كلمة مثمرة ، أتت بثمر كثير عجيب :
أول ثمرة لها هى الإيمان " فآمن أهل نينوى بالله "
وثانى ثمرة لأهل نينوى كانت انسحاق القلب الصادق المتذلل أمام الله .. ونظر الله إلى هذه المدينة المتضعة ، وتنسم منها رائحة الرضى . " فالذبيحة لله هى روح منسحق . القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله " ( مز 50 ) .
وكان من ثمار كلمة الله فيها أيضا : الصوم والصلاة ...
على أن أهم ثمرة لأهل نينوى كانت هى التوبة .. التوبة قادتهم إلى الإيمان !
وبهذه التوبة استحقوا رحمة الله ، فعفا عنهم جميعا وسامحهم ، وقبلهم إليه وضمهم إلى خاصته .
لم يقل الكتاب : " لما رأى الرب صومهم وصلاتهم وتذللهم " بل قال : " لما رأى أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة " .
يتساءل قداسة البابا شنودة :
+ " أود أن اقف قليلا عند عبارة هامة قيلت فى توبة نينوى وهى أنها : " تابت بمناداة يونان " . فماذا كانت مناداة يونان ؟
هل حقا أن يونان لم يقل سوى هذه العبارة وحدها ( بعد أربعين يوما تنقلب نينوى ) ؟ وهل كانت كافية لخلاص المدينة وإحداث هذا التأثير الهائل ؟
أميل إلى الأعتقاد أن توبة نينوى كان مرجعها الأساسى هو الأستعداد القلبى عند أهل نينوى .
ومما يزيد هذه التوبة قوة وجمالا ، أنها كانت توبة عامة ... الكل تابوا . الكل رجعوا إلى الله . الكل آمنوا به وهكذا نجح الهدف الثانى من خطة الله ، فخلص أهل نينوى ، كما خلص أهل السفينة من قبل .
+ + +
4
تأملات فى سفر يونان النبى
إنقاذ يونان من قسوته وكبريائه
كان هناك فرح فى السماء بخلاص نينوى لقد فرح الله ، وفرح الملائكة ، وكانوا يهنئون بعضهم قائلين : لقد آمنت نينوى ، وقد تابت ، وقد انضم إلى ملكوت الله 120 ألفا من الناس ى يوم واحد .
ووسط أفراح الماء ، وتهليل الملائكة ، كان هناك إنسان واحد حزين بسبب هذا الخلاص العظيم ، ذلك هو يونان النبى .
لقد حزن جدا لأن الله قد غفر لهؤلاء الناس ورحمهم ولم يهلكهم , وقد عبر الكتاب عن حزن يونان بعبارة مذهلة أو بعبارة مخجلة . قال فيها : " فغم ذلك يونان غما شديدا فاغتاظ " ( 4 : 1 ) ياللهول !! أيغتم النبى من أجل خلاص الناس ، وغما شديدا ، ويغتاظ !! كل ذلك لأن هذه الآلاف كلها قد نجت من الهلاك ...
يقول قداسة البابا شنودة : يذكرنى يونان فى تصرفه هذا بالإبن الكبير عندما حزن ورفض أن يدخل ، لأن أخاه كان ميتا فعاش ، وكان ضالا فوجد .. وقد قبله أبوه فرحا . فأغتم هذا الأبن الكبير غما شديدا وأغتاظ كيونان ... وحاول بغضبه أن يعكر صفو تلك البهجة .. تماما كيونان .
لقد كان يونان ما يزال متمركزا حول ذاته ، لا يفكر إلا فيها .
بهذا الغيظ برهن يونان على أنه لم يستطع أن يستفيد من تجربته السابقة ، نسى الثمن الذى دفعه فى بطن الحوت وفى السفينة المهددة بالغرق .. والعجيب أن يونان – وهو فى هذا السقوط الروحى – صلى إلى الرب ... بأى وجه كان يصلى وهو مختلف مع الله فى الوسيلة والأهداف ؟!
وهكذا صلى وقال : " آه يا رب .... " بل آه منك يايونان الذى لا تهتم سوى بنفسك وكرامتك
! ماذا تريد أن تقول ؟ يتابع يونان صلاته فيقول : " آه يارب ، أليس هذا كلامى إذ كنت بعد فى أرضى ؟! لذلك بادرت بالهرب إلى ترشيش ، لأنى علمت أنك إله رءوف ورحيم بطىء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر " ( 4 : 2 ) .
وماذا يضيرك يا يونان فى أن يكون الله رحيما ؟ ! ثق أنه لولا رحمته لهلكت أنت أيضا .. إن رحمته قد شملت الكل .. ويصرخ يونان فى تذمره " فالآن يارب ، خذ نفسى منى ، لأن موتى خير من حياتى " !!
هل إلى هذا الحد وصل غيظك من سقوط كلمتك يايونان .. ثم من قال أن كلمة الله التى قمت بتبليغها قد سقطت أو تغيرت أو نزلت إلى الأرض ؟
! ان الله أصدر حكم الهلاك والأنقلاب على نينوى الخاطئة ، وليس على نينوى التائبة .
على أن يونان لم يفهم هذا المنطق ، واهتم بحرفية الحكم لا بروحه ، لذلك اغتاظ ، ولم يكن له حق فى غيظه .
رأى الله أن يونان مغتم ومغتاظ ، فأراد أن يعمل معه عمل محبة
. بينما كان يونان يفكر فى ذاته ، كان الله يفكر فى خلاص الناس .
الله لم يفكر فى كرامته ، كيونان ، لم يفكر كيف أن يونان عصاه وخالفه وتذمر على أحكامه ، وإنما فكر كيف يريح يونان ويخلصه من غمه ، عجيبة هى محبة الله هذه ..
كان لله عمل كبير مع يونان لا بد أن يعمله ... يسعى لخلاصه هو أيضا ، لئلا بعد ما كرز لآخرين ، يكون هو نفسه مرفوضا أمام الله ( 1 كو 9 : 27 ) .. كان هذا الذى كرز للناس بالتوبة يحتاج هو أيضا إلى توبة ، يحتاج أن يتخلص من قسوته ومن كبريائه ومن اعتزازه بكرامته .
وكدأب الله دائما ، بدأ هو بعمل المصالحة ، فلما رأى يونان مغتما ، أعد يقطينة ارتفعت فوق رأس يونان " لتكون ظلا على رأسه ، لكى يخلصه من غمه " ( 4 : 6 ) .
ما أكثر ما تتعب يارب من أجلنا ! من أجل راحتنا ، ومن أجل إصلاحنا ، ومن أجل مصالحتنا .
كنا نظن أنك استرحت منذ اليوم السابع ، ولكنك ما تزال تعمل من أجلنا ، استرحت من خلق العالم
. أما من جهة رعايته فما تزال تعمل . " وفرح يونان من أجل اليقطينة فرحا عظيما " ( 4 : 6 ) .
يعلق قداسة البابا شنودة على تلك الجملة مندهشا : صدقونى أننى عندما قرأت عن الفرح العظيم الذى فرحه يونان باليقطينة انذهلت جدا .. انها ولا شك عبارة مخجلة !!
هل تفرح يا يونان فرحا عظيما من أجل اليقطينة التى ظللت عليك ، ولا تفرح ولو قليلا ، بل تغتاظ من أجل رحمة الله التى ظللت على 120 ألف نسمة ؟! ألم يكن الأجدر أن تفرح هذا الفرح العظيم من أجل خلاص نينوى ؟! .
داخل نينوى كان يونان يعمل مع الله فى نشر ملكوته بالكرازة ، وخارج نينوى كان الله يعمل لأجل يونان لتخليص نفسه ، ولتخليصه من غمه ...
فرح يونان بظل اليقطينة ، ولم يفرح بدرسها ، إذ لم يكن قد تلقاه بعد .. فرح باليقطينة ولم يفرح بالله الذى كان يعمل وراء اليقطينة من أجله .
وإذ بدأت خطة الله تأتى بثمرها ، ضرب اليقطينة فيبست ، ضاعت اليقطينة ، وضاع الظل ، وضربت الشمس على رأس يونان فذبل ، واشتهى لنفسه الموت !
حقا إن الله يدبر كل شىء للخير . الظل للخير ، وضربة الشمس للخير أيضا .
إن الله يريد لنا الخلاص ، وهو مستعد أن يستخدم كافة السبل النافعة لخلاصنا ، حتى لو كانت أحيانا تعبا للجسد ، أو تعبا للنفس .
وفى هذه التدابير الروحية كان يونان غارقا فى تفكيره المادى ، يفرح من أجل اليقطينة ، ويحزن من أجل ضياعها ، دون أن يفكر فى خلاص نفسه ، ودون أن يهتم بالمصالحة مع الله .
كثرون اشتهوا الموت لأسباب روحية مقدسة ، أما يونان فطلب الموت لأسباب تافهة تحمل معنى التذمر وعدم الأحتمال
بولس لم يخطىء عندما قال : " لى اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح فذاك أفضل جدا " ( فى 1 : 23 ) .. أما يونان فقد أخطأ عندما قال لله : " الآن خذ نفسى لأن موتى خير من حياتى " . قالها عن تذمر ، فى وقت لم يكن فيه مستعدا للموت .
ومع أن هذا الأسلوب من يونان لم يكن لطيفا من الناحية الروحية ، إلا أنه على أية الحالات يدل على صراحته مع الله وكشفه لدواخله كما هى ... وبدأ الله يتفاهم معه ويقنعه
. قال له الرب : " أنت أشفقت على اليقطينة التى لم تتعب فيها ولا ربيتها ، التى بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت ، أفلا أشفق أنا على نيتوى المدينة العظيمة التى يوجد فيها أكثر من أثنتى عشرة ربوة من الناس ..... " ؟!
أما من جهة كلمتك التى تظن أنها سقطت ، أو بالأحرى كلمتى ، فأعلم أنها لم تسقط وأنا لم أتغير ،
" فالله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران " ( يع 1 : 17 ) .
+ + +
سيظل يسوع فاتحا ذراعيه لانه يريد نفسى التى مات عنها لكى يحتضنها
إن سفر يونان النبى مملوء بالتأملات الروحية الجميلة ، نعرض لهذا السفر من الناحية الروحية البحتة وليس من جهة الجدل اللاهوتى .
سبيلنا هو الأستفادة وليس النقاش
. نريد أن نأخذ من هذا السفر الجميل دروسا نافعة لحياتنا . نستفيد من عمل الله ، ومن فضائل الناس ، ومن أخطائهم .
وما أجمل ما فعلته الكنيسة إذ اختارت هذا السفر ليكون مقدمة للصوم الكبير ، يسبقه بأسبوعين ، بقصة جميلة للتوبة ، وللصوم حتى نستقبل أيام الأربعين المقدسة بقلب نقى ملتصق بالرب .
والعجيب أن كثيرين من الذين يدرسون سفر يونان ، يركزون على أهل نينوى وصومهم وينسون ركاب السفينة ، وينسون يونان النبى ومشكلته
. فماذا كانت مشكلة يونان ؟
مشكلة يونـــان أن الله فى سفر يونان النبى ، يريد أن يعرفنا حقيقة هامة هى أن الأنبياء ليسوا من طبيعة أخرى غير طبيعتنا ، بل هم أشخاص " تحت الآلام مثلنا " يع 5 : 17 .
لهم ضعفاتهم ولهم نقائهم وعيوبهم ، ومن الممكن أن يسقطوا كما نسقط . كل ما فى الأمر أن نعمة الله عملت فيهم ، وأعطتهم قوة ليست هى قوتهم وإنما هى قوة الروح القدس العامل فى ضعفهم ، لكى يكون فضل القوة لله وليس لنا كما يقول الرسول ( 2 كو 4 : 7 )
وقد كان يونان النبى من " ضعفاء العالم " الذين اختارهم الرب ليخزى بهم الأقوياء ( 1 كو 1 : 27 ) . كانت له عيوبه ، وكانت له فضائله . وقد اختاره الرب على الرغم من عيوبه ، وعمل به ، وعمل فيه ، وعمل معه وأقامه نبيا قديسا عظيما لا نستحق التراب الذى يدوسه بقدميه . لكى يرينا بهذا أيضا أنه يمكن أن يعمل معنا ويستخدم ضعفنا ، كما عمل مع يونان من قبل ..
+ سقطات فى هروب يونان :
سنرى بعضا من ضعف يونان فى موقفه من دعوة الرب ، يقول الكتاب : " وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاى قائلا : قم أذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ، وناد عليها ، لأنه قد صعد شرهم أمامى . فقام يونان ليخرج إلى ترشيش من وجه الرب . فنزل إلى يافا ، فوجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش ، فدفع أجرتها ، ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب "
وهنا نرى يونان النبى وقد سقط فى عدة أخطاء ،
وكانت السقطة الأولى له هى المخالفة والعصيان .
+ لم يستطع أن يطيع الرب فى هذا الأمر ، وهو النبى الذى ليس له عمل سوى أن يدعو الناس إلى طاعة الرب . عندما نقع فى المخالفة ، يجدر بنا أن نشفق على المخالفين . واضعين أمامنا قول الرسول : " اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون أيضا مثلهم ... " ( عب 13 : 3 ) .
+ على أن سقطة المخالفة التى وقع فيها يونان ، كانت تخفى وراءها سقطة أخرى أصعب وأشد هى الكبرياء ممثلة فى الأعتزاز بكلمته ، وترفعه عن أن يقول كلمة وتسقط إلى الأرض ولا تنفذ ...
كان اعتزازه بكلمته هو السبب الذى دفعه إلى العصيان ، وحقا أن خطية يمكن أن تقود إلى خطية أخرى ، فى سلسلة متلاحمة الحلقات .
كان يونان يعلم أن الله رحيم ورؤوف ، وأنه لا بد سيعفو عن هذه المدينة إذا تابت . وهنا سبب المشكلة !
وماذا يضيرك يا يونان فى أن يكون الله رحيما ويعفو ؟
يضيرنى الشىء الكثير : سأقول للناس كلمة ، وكلمتى ستنزل إلى الأرض
+ إلى هذا الحد كان يونان متمركزا حول ذاته ! لم يستطع أن ينكر ذاته فى سبيل خلاص الناس
. كانت هيبته وكرامته وكلمته ، أهم عنده من خلاص مدينة بأكملها ..! كان لا مانع عنده من أن يشتغل مع الرب ، على شرط أن يحافظ له الرب على كرامته وعلى هيبة كلمته
.. من أجل هذا هرب من وجه الرب ، ولم يقبل القيام بتلك المهمة التى تهز كبرياءه ...
وكان صريحا مع الرب فى كشف داخليته له إذ قال له فيما بعد عندما عاتبه : " آه يا رب ، أليس هذه كلامى إذ كنت بعد فى أرضى ، لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش ، لأنى علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطىء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر " ( 4 : 2 ) .
+ وكان هرب يونان من وجه الرب يحمل فى ثناياه خطية أخرى هى الجهل وعدم الإيمان هذا الذى يهرب من الرب ، إلى أين يهرب ، والرب موجود فى كل مكان ؟!
صدق داود النبى حينما قال للرب : " أين أذهب من روحك ؟ ومن وجهك أين أهرب ؟ ... ( مز 139 : 7 – 10 ) . أما يونان فكان مثل جده آدم الذى ظن أن يختفى من وجه الرب وراء الشجر ... حقا إن الخطية تطفىء فى الإنسان نور المعرفة ، وتنسيه حتى البديهيات !
وجد يونان فى يافا سفينة ذاهبة إلى ترشيش ، فدفع أجرتها ، ونزل فيها .. والعجيب أن الخطيئة كلفته مالا وجهدا . دفع أجرة للسفينة ليكمل خطيته .. أما النعمة فننالها مجانا ..
عندما دفع يونان أجرة السفينة خسر خسارة مزدوجة : خسر ماله ، وخسر أيضا طاعته ونقاوته ..
العجيب أن الله استخدم عصيان يونان للخير
. حقا إن الله يمكنه أن يستخدم كل شىء لمجد اسمه .. اللــه يستخدم الكل
لقد عصى يونان أمر الرب ، وهرب راكبا السفينة ، ولكن الله الذى " يخرج من ىلآكل أكلا ومن الجافى حلاوة " ( قض 14 : 14 ) ، الله الذى يستطيع أن يحول الشر إلى خير استطاع أيضا أن يستفيد من عصيان يونان ... إن كان بسبب طاعة يونان سيخلص أهل نينوى ، فإنه بعصيان يونان يمكن أن يخلص أهل السفينة !!
وكأن الله يقول له : هل تظن يا يونان أنك قد هربت منى ؟ كلا . أنا سأرسلك إلى ركاب السفينة ، ليس كنبى ، ولا كمبشر ، ولا كصوت صارخ يدعو الناس إلى التوبة ، وإنما كمذنب وخاطىء وسبب إشكال وتعب للآخرين ، وبهذه الصورة سأخلصهم بواسطتك .
هل ركبت البحر فى هروبك يا يونان ؟ إذن فقد دخلت فى دائرة مشيئتى أيضا . لأننى أملك البحر كما أملك البر ، كلاهما من صنع يدى . وأمواج البحر ومياهه وحيتانه تطيعنى أكثر منك كما سترى .
طاعة غير العاقلين
لقد أخجل الرب يونان النبى بطاعة أهل نينوى ، وببر أهل السفينة وإيمانهم ، وأيضا بطاعة الجمادات والمخلوقات غير العاقلة . ومن الجميل أننا نرى كل هؤلاء فى ارساليات إلهية وفى مهمات رسمية أدوها على أكمل وجه وأفضله . فما هى هذه الكائنات غير العاقلة التى كانت عناصر نافعة فى إتمام المشيئة الإلهية ؟
+ " فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر ، فحدث نوء عظيم فى البحر حتى كادت السفينة تنكسر " ( 1 : 4 ) . لقد أدت الريح واجبها ، وكانت رسولا من الرب ، قادت الناس إلى الصلاة ، فصرخ كل واحد إلى إلهه .
+ وكما أدت هذه الريح الشديدة مهمتها فى أول القصة كذلك أدت مهمة أخرى فى آخر القصة ، إذ يقول الكتاب : " وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحا شرقية حارة ، فضربت الشمس على رأس يونان فذبل فطلب لنفسه الموت .. " ( 4 : 8 ) .
+ وكما استخدم الله الريح ، استخدم الحوت أيضا لتنفيذ مشيئته : وفى ذلك يقول الكتاب أول :ا " وأما الرب فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان ، فكان يونان فى جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال " ( 1 : 17 ) .
ثم يعود فيقول " وأمر الرب الحوت ، فقذف يونان إلى البر " ( 2 : 10 ) . وهكذا كان الحوت ينفذ أوامر إلهية تصدر إليه ، وينفذها بدقة وحرص حسب مشيئة الرب .
+ وكما استخدم الله الريح والحوت ، استخدم الشمس والدودة واليقطينة .
ويقول الكتاب : " فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان ... " ( 4 : 6 ) .
ويقول : " ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر فى الغد ، فضربت اليقطينة فيبست " ( 4 : 7 )
وأيضا : " الله أعد ريحا شرقية حارة فضربت الشمس على رأس يونان " ( 4 : 8 ) .
فى سفر يونان كانت كل هذه الكائنات مطيعة للرب ، الوحيد الذى لم يكن مطيعا هو الإنسان العاقل ، يونان ..... الذى منحه الله حرية ارادة يمكنه بها أن يخالفه ! .
هكذا الإنسان ، أما باقى الكائنات فلا تعرف غير الطاعة . على أنه لم يكن كل إنسان غير مطيع فى سفر يونان ، بل كل الناس أطاعوا ، ما عدا يونان ؛ النبــى !! على أن يونان لم يهرب من المهمة اشفاقا على نينوى ، من الهلاك ، بل على العكس هرب خوفا من أن تبقى المدينة ولا تهلك ...
لم يتشفع فيها كإبراهيم عندما تشفع فى سدوم . بل أنه حزن واغتاظ واغتم غما شديدا ، ورأى أن الموت هو أفضل لنفسه من الحياة ، كل ذلك لأن الله لم يتمم انذاره ويهلك المدينة
أراد الله للبحر أن يهيج فهاج ، وأراد له أن يهدأ بعد القاء يونان فيه فهدأ ... ما أعجب الطبيعة المطيعة التى لا تعصى لله أمرا ، كالإنسان .
+ وكما أمر الحوت الضخم الكبير لكى ينفذ جزءا من الخطة الإلهية ، كذلك أمر الدودة البسيطة أمرها أن تضرب اليقطينة فيبست ... مأ أعجب هذا أن نرى حتى الدودة تكون جزءا من العمل الإلهى المقدس الكامل ... حقا ما أجمل قول الكتاب : " انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار " متى 18 : 10 .
ليتنا نأخذ درسا من كل هؤلاء وندرك نحن أيضا عمق عبارة " لتكن مشيئتك " فى حياتنا وحياة الناس . هذه العبارة التى فشل يونان فى ممارستها ، ولم يستطع أن يصل إليها إلا بعد تجارب كثيرة وصراع مع الله ، وعقوبات ، واقناعات ... أخيرا استطاع الله أن يقنعه بخيرية المشيئة الإلهية ، مهما كانت مخالفة لمشيئته الذاتية .
+ + +
بحارة أمميــــون كانوا أفضل من النبى
ما أعجب أهل هذه السفينة التى ركبها يونان .. حقا كانوا أممين ، ومع ذلك كانت لهم فضائل عجيبة فاقوا بها النبى العظيم . وفيهم تحقق قول الرب " ولى خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ، ينبغى أن آتى بتلك أيضا فتسمع صوتى . وتكون رعية واحدة وراع واحد " ( يو 10 : 16 ) .
يذكرنى أهل هذه السفينة بكرنيليوس قائد المائة ، الذى كان فى مظهره رجلا أمميا بعيدا عن رعوية الله ، ولكنه كان فى حقيقته رجلا تقيا خائفا الله هو وجميع بيته .
لعله تدبير الهي أن ينزل يونان فى هذه السفينة بالذات ، من أجله ومن أجل هذه السفينة .. لم يشأ الله أن يمضى إلى كورة بعيدة .
فضائل أهل السفينة
+ أول صفة جميلة فى بحارة هذه السفينة أنهم كانوا رجال صلاة .
يقول الكتاب : " فخاف الملاحون ، وصرخوا كل واحد إلى إلهه ، وطرحوا الأمتعة التى فى السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم " ( 1 : 5 ) .
نلاحظ هنا أنهم لجأوا إلى الله قبل تنفيذهم ما تتطلبه الحكمة البشرية لإنقاذ الموقف
. صلوا أولا ثم ألقوا الأمتعة ليخففوا عن السفينة ,.... كان كل بحارة السفينة وركابها يصلون ، والوحيد الذى لم يكن يصلى فى ذلك الوقت هو نبى الله يونان !!
وحتى بعد أن أيقظوه ، لم يقل الكتاب أنه قام وصلى !
إنه موقف مخجل حقا .. عجيب حقا هو الرب إذ يبكت أحد أنبيائه برجل أممى
: " مالك نائما " .. ما هذا الكسل والتراخى واللامبالاه ؟! ألا تقوم وتصلى كباقى الناس ؟ " قم أصرخ إلى إلهك ، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك " ... كيف خالف الله ، وكسر وصيته وهرب منه ، واستطاع أن ينام نوما ثقيلا ؟! لا بد أن ضميره كان قد نام أيضا ، نوما ثقيلا ، مثله ...
+ صفة جميلة ثانية نجدها فى أهل السفينة أنهم كانوا يبحثون عن الله .
لم يقولوا ليونان فى تعصب لديانتهم " قم اصرخ إلى إلهنا " . وإنما قالوا له " قم أصرخ إلى إلهك ، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك " .. وهذا يدل على أنهم كانوا يبحثون عن الله ..
+ صفة جميلة ثالثة وهى أنهم كانوا رجال بساطة وإيمان .. لم يكتفوا بالصلاة ، وإنما أيضا ألقوا قرعة ... فى تقواهم كانوا يشمئزون من بشاعة الخطية ويشعرون أنها سبب البلايا التى تحيق بالإنسان ..
+ كانوا أيضا أشخاصا عادلين لا يحكمون على أحد بسرعة ، بل إتصفوا بطول الأناة وبالفحص وإرضاء الضمير ..
أما يونان فاعترف لهم وقال : " أنا عبرانى ، وأنا خائف من الرب إله السماء الذى صنع البحر والبر ، وبمجرد سماعهم ذلك الكلام خافوا خوفا عظيما ..
هل إلهك يا يونان هو إله البحر والبر ؟ نحن الآن فى البحر ، إذن فنحن فى يد إلهك أنت ... ونحن نريد الوصول إلى البر .. وإلهك هو إله البر أيضا ، كما هو إله البحر ، إذن فنحن فى يديه .
لذلك خافوا ووبخوه قائلين : " لماذا فعلت هذا ؟! "
وللمرة الثانية يتبكت النبى العظيم من الأمميين .
+ وكما كان ركاب السفينة عادلين ، كانوا أيضا فى منتهى الرحمة والشفقة : كانوا يوقنون أنه مذنب ويستحق الموت ، ومع ذلك لم يكن سهلا على هؤلاء القوم الرحماء ، أن يميتوا إنسانا حتى لو كان هو السبب فى ضياع متاعهم وأملاكهم وتهديد حياتهم بالخطر ..
قال لهم يونان : " خذونى واطرحونى فى البحر ، فيسكن البحر عنكم ، لأنى عالم أنه بسببى هذا النوء العظيك عليكم " ... لقد بذلوا كل جهدهم لإنقاذ الرجل الخاطىء من الموت ، ولكن دون جدوى
. كانت مشيئة الرب أن يلقى يونان فى البحر .. وهكذا أسقط فىأيديهم ، ولكن لكى يريحوا ضمائرهم ، صرخوا إلى الرب وقالوا " آه يارب ، لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل . ولا تجعل علينا دما بريئا ، لأنك أنت يارب فعلت كما شئت "
وإذ تحققوا أن هذه هى مشيئة الله ، وأنهم لا يستطيعون أن يقفوا ضد مشيئته ، " أخذوا يونان وطرحوه فى البحر ، فوقف البحر عن هيجانه " ....
+ من كل ما سبق يتضح أن هؤلاء البحارة كان لهم ضمير حساس نقى ، وأنهم أرادوا بكل حرص أن يقفوا أمام ضميرهم بلا لوم .
+ كانت لهؤلاء الناس قلوب مستعدة لعمل الله فيها : كانوا يتلمسون إرادة الله لتنفيذها . ولما وقف هيجان البحر بإلقاء يونان فيه ، تأكدوا من وجود الله فى الأمر ، فآمنوا بالرب ، وذبحوا له ذبيحة ، ونذروا له نذورا .. وفى إيمانهم بالرب لم يؤمنوا فقط أنه هو الرب ، وإنما بتقديمهم للذبيحة أعلنوا أيضا إيمانهم بالدم والكفارة ..
وهكذا كسب الله المعركة الأولى ، وتمم خلاص أهل السفينة بعصيان يونان بقيت فى خطة الله للخلاص مسألتان هامتان أخريان : وهما خلاص أهل نينوى ، وخلاص يونان .
+ + +
2
تأملات فى سفر يونان النبى
يونان فى بطن الحوت
أُلقى يونان فى البحر ، ولكنه لم يلق للموت .. كانت الإرادة الإلهية ما تزال ممسكة به ، والله ما يزال عند خطته أن يرسل يونان إلى مدينة نينوى لإنقاذها ...
+ وهل ما يزال هذا الإنسان يارب يصلح لهذه الخدمة الكبيرة بعد كل ما صدر منه ؟
نعم ، إن يونان هذا هو ابنى وحبيبى ، ونبيى أيضا ، وسأرسله إلى نينوى
. إن كان قد أخطأ فإنى سأصلحه ، وأجعله صالحا للخدمة ، وأنقذ نفسه ، وأنقذ المدينة به .. هذا الحجر غير المصقول سأتعهده بالنحت ، حتى أجعله صالحا للبناء ...
حقا إن الله عجيب فى طول أناته
. لا يغضب ولا يتخلى بسرعة عن خدامه الذين يخطئون عندما ألقى يونان فىالبحر ، تلقفته الأيدى الإلهية ، وحملته فى رفق لكى لا يهلك ، ولكى لا يغرق ، أخذه الله ووضعه فى جوف حوت ، ليحفظه آمنا هناك ...
كان الله قد " أعد حوتا عظيما ليبتلع يونان " ( 1 : 17 ) . لم يعده للإهلاك ، وإنما للحفظ .. لم يكن الحوت عقوبة وإنما كان صونا . كان يونان فى بطن الحوت أكثر امنا وراحة مما لو ظل فى البحر ، يكافح الأمواج ، ويكافح البحر ، ويكافح التعب والبرد والريح ..
كان هذا الحوت مرسلا من الله ، لينقذ الإرادة الإلهية التى كلف بها .
لم يكن له سلطان أن يأكله أو يفرز عليه عصارات ويحلله ويمتصه
. كلا ، بل ابتلعه ليدخله إلى أحضانه الداخلية ، ويحفظه حتى يصل إلى قرب هدفه . كان وسيلة مواصلات مجانية يصل بها يونان إلى أقرب مكان من محطة النزول .
كأن يونان كان فى غواصة حصينة تمخر به البحر وهو فى جوفها تحت الماء ..
كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام سليما لا يقوى عليه الحوت . كما كان المسيح فى القبر ثلاثة أيام سليما لا يقوى عليه الموت . هكذا أنت أيها الأخ المبارك ، ان أعد الله حوتا عظيما ليبتلعك ، فلا تخف ، ولا تتضايق ولا تحزن ، بل بارك الرب داخله كما فعل يونان .
حاذر أن تشكو كلما ابتلعك حوت ، فالحيتان فى بحر هذا العالم كثيرة ..
كان ذلك الحوت ضخما جدا ، كان حوتا عظيما .. وجد يونان نفسه فى بركة ماء فماذا يعمل ؟ رجع إلى عقله .. وركع وصلى فى جوف الحوت .. ونظر إليه الرب وابتهج : آه يا يونان ، اننى أريد منك هذه الصلاة من بداية القصة ، كل ما حدث كان القصد منه أن أجعلك تركع ، ولو فى جوف حوت ، لنتفاهم .... أخذ يونان صورته الأولى كإنسان مطيع محب لله ، مؤمن جدا بوعوده
. رجع كما كان يثق بالله ويشكره ...
إن صلاة يونان وهو فى جوف الحوت ، مؤثرة جدا ، تتسم بروح النبوة وبالإيمان العجيب " والإيقان بأمور لا ترى " ....
يقول قداسة البابا شنودة الثالث : إنها من أعظم الصلوات التى قرأتها فى حياتى
.. ليته كان قد قدمها ، أو قدم صلاة من نوعها قبل أن يفكر فى الهروب من الرب .. حقا أن الضيقات هى مدرسة للصلاة ...
لقد تأثرت كثيرا بقوله " دعوت من ضيقى الرب فاستجابنى " . وقلت فى نفسى : ما هذا يا يونان ؟ كيف استجابك وأنت ما تزال فى جوف الحوت ؟! أما كان الأجدر أن تقول " دعوت يارب فى ضيقى فاستجبنى " فتطلب هذه الأستجابة لا أن تعلنها ؟! .
لكن يونان يرى بعين الإيمان ما سوف يعطيه له الرب
. يراه كأنه قائم أمامه ، وليس كأنه سيأخذه فيما بعد ، فيفرح قائلا " دعوت ... فأستجابنى " .
ويستمر يونان فى صلاته العجيبة ، فيقول للرب " صرخت من جوف الهاوية ، فسمعت صوتى .. جازت فوقى جميع تياراتك ولججك . ولكننى أعود أنظر إلى هيكل قدسك " ... بهذا الإيمان رأى يونان نفسه خارج الحوت ، ينظر إلى هيكل الرب ...
وبهذا الإيمان استطاع أن يحول صلاته من طلب إلى شكر ، وهو ما يزال بعد فى جوف الحوت العظيم .. فختم صلاته بقوله " أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك ، وأوفى بما نذرته . للرب الخلاص " ( 2 : 9 ) .
كيف تأكدت أيها النبى القديس من أن الرب قد سمع صوتك ، وقد استجابك ، وقد سمح أن تخرج من بطن الحوت ، وتعود مرة أخرى تنظر إلى هيكله ؟؟ أين منك هذا الهيكل وهو بعيد فى أورشليم ، بينما أنت فى جوف الحوت ، فى مكان ما من البحرلا تستطيع تحديده ؟
! ولكن النبى يجيب : أنا واثق تماما أننى سأخرج من بطن الحوت ، وأكمل رسالتى ، لأن كلمة الله لا تسقط ولا ترجع فارغة .
عجيب جدا هذا الرجل فى إيمانه ، إنه حقا رجل الإيمان العميق الذى اختاره الرب
... لا ننكر أن ضبابا قد اكتنفه فأخطأ إلى الله ، ولكن عنصره ما يزال طيبا .
إنه يرى المستقبل الملىء بالرجاء قائما كأنه الحاضر ، ويشكر الرب على خلاص لم ينله بعد من جهة الزمن ، ولكنه قد ناله فعلا من جهة الكشف الخاص بموهبة النبوة ، الخاص بالرجل المفتوح العينين ، الذى يرى رؤى الرب كأنها فى كتاب مفتوح ، ويتمتع بمواعيده قبل أن تأتى ...
وإذ وصل ايمان يونان إلى هذا الحد العجيب ، أمر الرب الحوت فقذفه إلى البر ..
كان سير هذا الحوت بإحكام عظيم ، وفق خطة إلهية مدبرة تدعو إلى الأطمئنان ، ظهر فى الوقت المناسب ، وفى المكان المناسب ، لكى يحمل يونان فى داخله كما لو كان هذا النبى ينتقل من سفينة مكشوفة يمكن للأمواج أن تغطيها وتغرقها ، إلى سفينة مغلقة محصنة لا تقوى عليها المياة ولا الأمواج . وفى الوقت المناسب قذف يونان إلى البر فى المكان الذى حدده الرب لنزوله . ثم جاز مقابله بعد أن أدى واجبه نحوه على أكمل وجه ... هنيئا لك يا يونان هذه الغواصة البديعة ، التى عشت فى أحضانها فترة ، أعادتك إلى طقسك وإلى رسالتك ...
نقلب هذه الصفحة من قصة يونان ، كأنها لم تحدث ، وكأن هذين الإصحاحين الأولين من السفر قد نسيهما الرب ، فعاد يقول ليونان مرة أخرى
" قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ، وناد عليها المناداه التى أنا مكلمك بها ... "
+ + +
3
تأملات فى سفر يونان النبى
نينوى المدينة العظيمة
يونان يذهب إلى نينوى ، ولكن ... أصدر الله ليونان نفس الأمر القديم " قم اذهب إلى نينوى ... " ، وفى هذه المرة لم يهرب من وجه الرب ، بل " قام وذهب إلى نينوى حسب أمر الرب " .
وتم الأمر فى هدوء : الله لم يعاتب ، ويونان لم يعارض .. ولعل هذا الأمر يحتاج منا إلى وقفة تأمل ...
الله لم يغضب من موقف يونان ، بحيث يحرمه من الخدمة ، أو يسقطه من درجة النبوة إلى درجة المؤمن العادى ، أو يبحث عن غيره ليرسله ...
أما يونان فكان قد تلقى درسا ، فأطاع ... ولكن أتراها كانت طاعة عن اقتناع ورضى أم هى مجرد خضوع ؟
هوذا أنت ذاهب يا يونان إلى نينوى .. فماذا عن العوائق السابقة التى كانت تمنعك فى المرة الأولى ؟ ماذا عن كرامتك ؟ وماذا عن كلمتك التى ستقولها ثم لا ينفذها الرب ، إذ تتوب المدينة ويرجع الرب عن تهديده لها ؟ هل فكرت فى كل ذلك ، وهل مات الوحش الذى فى أحشائك ، وحش الكرامة والأعتزاز بالكلمة ؟
فى هذه المرة كان يونان سيطيع ، وكفى . كان سيطيع من الخارج ، أما من الداخل فما تزال كرامته لها أهمية عنده . سيضغط على نفسه من أجل الطاعة . وسينتظر ماذا سيفعل الرب .
فى هذه المرة تقابل مع الله فى منتصف الطريق
كانت محبة الكرامة ما تزال تتعبه ، ولكنه أطاع خوفا من التأديب ، وليس عن إيمان وتواضع .
نينوى المدينة العظيمة عجيب هذا اللقب" المدينة العظيمة " الذى أطلقه الرب على نينوى !! قاله الرب مرتين ليونان " قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة " ( 1 : 2 ، 3 : 2 ) . وهذا التعبير " المدينة العظيمة " كرره الوحى للمرة الثالثة بقولـه " وأما نينوى فكانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاثة أيام " ( 3 : 3 ) . وتكرر هذا اللقب للمرة الرابعة فى آخر السفر .. ( 4 : 11 ) .
ما أعجب هذا ، أن يلقبها الرب أربع مرات بالمدينة العظيمة ، بينما كانت مدينة أممية ، جاهلة لا يعرف أهلها يمينهم من شمالهم ، تستحق أن ينادى عليها النبى بالهلاك ، وهى خاطئة قد صعد شرها أمام الرب
. وليس فيها من جهة المقياس الروحى أى مظهر من مظاهر العظمة !!
أكان هذا تنازلا من الرب فىاستخدام الأسلوب البشرى ، فسماها عظيمة ، على اعتبار أنها عاصمة لدولة ، وتضم أكثر من 120 ألفا من السكان ؟
أم أن الله رآها باعتبار ما سوف تصير إليه فى توبتها وفى عظمتها المقبلة ، كأممية توبخ اليهود ، كما قال عنها الرب " إن رجال نينوى سيقومون فى يوم الدين مع هذا الجيل ويدينونه ، لأنهم تابوا بمناداة يونان . وهوذا أعظم من يونان ههنا " ( متى 12 : 41 )
إن تسمية الرب لنينوى بالمدينة العظيمة درس نافع للذين يسلكون بالحرف ، ويدققون فى استخدام الألفاظ تدقيقا يعقدون به كل الأمور ، ويخضعون به الروح لفقه الكلمات !!
أمر الله يونان النبى أن ينادى على نينوى بالهلاك ، ولكنه كان فى نفس الوقت يدبر لأهلها الخلاص
.. كان يحبهم ويعمل على إنقاذهم دون أن يطلبوا منه هذا ..
إن سفر يونان يعطينا فكرة عميقة عن كراهية الله للخطية ، ولكنه فى نفس الوقت يشفق على الخطاة ويسعى لخلاصهم .
وانقاذ الله لنينوى يعطينا فكرة عن اهتمام الله بالأمم ، إذ كان اليهود يظنون أن الله لهم وحدهم ، وأنهم وحدهم الذين يتبعونه ويعبدونه ، وهم شعبه وغنم رعيته ، فأراهم الله فى قصة نينوى أن له خرافا أخر ليست من تلك الحظيرة .
عظمة نينوى فى توبتها عندما وصف الله نينوى بأنها مدينة عظيمة ، لم يكن ينظر إلى جهلها وخطيئتها ، إنما كان ينظر فى فرح شديد إلى عمق توبتها .
+ كانت نينوى سريعة فى إستجابتها لكلمة الرب ... بعكس أهل سدوم الذين استهزأوا بلوط عندما دعاهم للتوبة ( تك 19 : 14 ) .
إنهم أعظم بكثير من اليهود الذين عاصروا السيد المسيح – الذى هو أعظم من يونان بما لا يقاس – ورأوا معجزاته العديدة ...
+ كانت كلمة الرب لأهل نينوى كلمة مثمرة ، أتت بثمر كثير عجيب :
أول ثمرة لها هى الإيمان " فآمن أهل نينوى بالله "
وثانى ثمرة لأهل نينوى كانت انسحاق القلب الصادق المتذلل أمام الله .. ونظر الله إلى هذه المدينة المتضعة ، وتنسم منها رائحة الرضى . " فالذبيحة لله هى روح منسحق . القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله " ( مز 50 ) .
وكان من ثمار كلمة الله فيها أيضا : الصوم والصلاة ...
على أن أهم ثمرة لأهل نينوى كانت هى التوبة .. التوبة قادتهم إلى الإيمان !
وبهذه التوبة استحقوا رحمة الله ، فعفا عنهم جميعا وسامحهم ، وقبلهم إليه وضمهم إلى خاصته .
لم يقل الكتاب : " لما رأى الرب صومهم وصلاتهم وتذللهم " بل قال : " لما رأى أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة " .
يتساءل قداسة البابا شنودة :
+ " أود أن اقف قليلا عند عبارة هامة قيلت فى توبة نينوى وهى أنها : " تابت بمناداة يونان " . فماذا كانت مناداة يونان ؟
هل حقا أن يونان لم يقل سوى هذه العبارة وحدها ( بعد أربعين يوما تنقلب نينوى ) ؟ وهل كانت كافية لخلاص المدينة وإحداث هذا التأثير الهائل ؟
أميل إلى الأعتقاد أن توبة نينوى كان مرجعها الأساسى هو الأستعداد القلبى عند أهل نينوى .
ومما يزيد هذه التوبة قوة وجمالا ، أنها كانت توبة عامة ... الكل تابوا . الكل رجعوا إلى الله . الكل آمنوا به وهكذا نجح الهدف الثانى من خطة الله ، فخلص أهل نينوى ، كما خلص أهل السفينة من قبل .
+ + +
4
تأملات فى سفر يونان النبى
إنقاذ يونان من قسوته وكبريائه
كان هناك فرح فى السماء بخلاص نينوى لقد فرح الله ، وفرح الملائكة ، وكانوا يهنئون بعضهم قائلين : لقد آمنت نينوى ، وقد تابت ، وقد انضم إلى ملكوت الله 120 ألفا من الناس ى يوم واحد .
ووسط أفراح الماء ، وتهليل الملائكة ، كان هناك إنسان واحد حزين بسبب هذا الخلاص العظيم ، ذلك هو يونان النبى .
لقد حزن جدا لأن الله قد غفر لهؤلاء الناس ورحمهم ولم يهلكهم , وقد عبر الكتاب عن حزن يونان بعبارة مذهلة أو بعبارة مخجلة . قال فيها : " فغم ذلك يونان غما شديدا فاغتاظ " ( 4 : 1 ) ياللهول !! أيغتم النبى من أجل خلاص الناس ، وغما شديدا ، ويغتاظ !! كل ذلك لأن هذه الآلاف كلها قد نجت من الهلاك ...
يقول قداسة البابا شنودة : يذكرنى يونان فى تصرفه هذا بالإبن الكبير عندما حزن ورفض أن يدخل ، لأن أخاه كان ميتا فعاش ، وكان ضالا فوجد .. وقد قبله أبوه فرحا . فأغتم هذا الأبن الكبير غما شديدا وأغتاظ كيونان ... وحاول بغضبه أن يعكر صفو تلك البهجة .. تماما كيونان .
لقد كان يونان ما يزال متمركزا حول ذاته ، لا يفكر إلا فيها .
بهذا الغيظ برهن يونان على أنه لم يستطع أن يستفيد من تجربته السابقة ، نسى الثمن الذى دفعه فى بطن الحوت وفى السفينة المهددة بالغرق .. والعجيب أن يونان – وهو فى هذا السقوط الروحى – صلى إلى الرب ... بأى وجه كان يصلى وهو مختلف مع الله فى الوسيلة والأهداف ؟!
وهكذا صلى وقال : " آه يا رب .... " بل آه منك يايونان الذى لا تهتم سوى بنفسك وكرامتك
! ماذا تريد أن تقول ؟ يتابع يونان صلاته فيقول : " آه يارب ، أليس هذا كلامى إذ كنت بعد فى أرضى ؟! لذلك بادرت بالهرب إلى ترشيش ، لأنى علمت أنك إله رءوف ورحيم بطىء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر " ( 4 : 2 ) .
وماذا يضيرك يا يونان فى أن يكون الله رحيما ؟ ! ثق أنه لولا رحمته لهلكت أنت أيضا .. إن رحمته قد شملت الكل .. ويصرخ يونان فى تذمره " فالآن يارب ، خذ نفسى منى ، لأن موتى خير من حياتى " !!
هل إلى هذا الحد وصل غيظك من سقوط كلمتك يايونان .. ثم من قال أن كلمة الله التى قمت بتبليغها قد سقطت أو تغيرت أو نزلت إلى الأرض ؟
! ان الله أصدر حكم الهلاك والأنقلاب على نينوى الخاطئة ، وليس على نينوى التائبة .
على أن يونان لم يفهم هذا المنطق ، واهتم بحرفية الحكم لا بروحه ، لذلك اغتاظ ، ولم يكن له حق فى غيظه .
رأى الله أن يونان مغتم ومغتاظ ، فأراد أن يعمل معه عمل محبة
. بينما كان يونان يفكر فى ذاته ، كان الله يفكر فى خلاص الناس .
الله لم يفكر فى كرامته ، كيونان ، لم يفكر كيف أن يونان عصاه وخالفه وتذمر على أحكامه ، وإنما فكر كيف يريح يونان ويخلصه من غمه ، عجيبة هى محبة الله هذه ..
كان لله عمل كبير مع يونان لا بد أن يعمله ... يسعى لخلاصه هو أيضا ، لئلا بعد ما كرز لآخرين ، يكون هو نفسه مرفوضا أمام الله ( 1 كو 9 : 27 ) .. كان هذا الذى كرز للناس بالتوبة يحتاج هو أيضا إلى توبة ، يحتاج أن يتخلص من قسوته ومن كبريائه ومن اعتزازه بكرامته .
وكدأب الله دائما ، بدأ هو بعمل المصالحة ، فلما رأى يونان مغتما ، أعد يقطينة ارتفعت فوق رأس يونان " لتكون ظلا على رأسه ، لكى يخلصه من غمه " ( 4 : 6 ) .
ما أكثر ما تتعب يارب من أجلنا ! من أجل راحتنا ، ومن أجل إصلاحنا ، ومن أجل مصالحتنا .
كنا نظن أنك استرحت منذ اليوم السابع ، ولكنك ما تزال تعمل من أجلنا ، استرحت من خلق العالم
. أما من جهة رعايته فما تزال تعمل . " وفرح يونان من أجل اليقطينة فرحا عظيما " ( 4 : 6 ) .
يعلق قداسة البابا شنودة على تلك الجملة مندهشا : صدقونى أننى عندما قرأت عن الفرح العظيم الذى فرحه يونان باليقطينة انذهلت جدا .. انها ولا شك عبارة مخجلة !!
هل تفرح يا يونان فرحا عظيما من أجل اليقطينة التى ظللت عليك ، ولا تفرح ولو قليلا ، بل تغتاظ من أجل رحمة الله التى ظللت على 120 ألف نسمة ؟! ألم يكن الأجدر أن تفرح هذا الفرح العظيم من أجل خلاص نينوى ؟! .
داخل نينوى كان يونان يعمل مع الله فى نشر ملكوته بالكرازة ، وخارج نينوى كان الله يعمل لأجل يونان لتخليص نفسه ، ولتخليصه من غمه ...
فرح يونان بظل اليقطينة ، ولم يفرح بدرسها ، إذ لم يكن قد تلقاه بعد .. فرح باليقطينة ولم يفرح بالله الذى كان يعمل وراء اليقطينة من أجله .
وإذ بدأت خطة الله تأتى بثمرها ، ضرب اليقطينة فيبست ، ضاعت اليقطينة ، وضاع الظل ، وضربت الشمس على رأس يونان فذبل ، واشتهى لنفسه الموت !
حقا إن الله يدبر كل شىء للخير . الظل للخير ، وضربة الشمس للخير أيضا .
إن الله يريد لنا الخلاص ، وهو مستعد أن يستخدم كافة السبل النافعة لخلاصنا ، حتى لو كانت أحيانا تعبا للجسد ، أو تعبا للنفس .
وفى هذه التدابير الروحية كان يونان غارقا فى تفكيره المادى ، يفرح من أجل اليقطينة ، ويحزن من أجل ضياعها ، دون أن يفكر فى خلاص نفسه ، ودون أن يهتم بالمصالحة مع الله .
كثرون اشتهوا الموت لأسباب روحية مقدسة ، أما يونان فطلب الموت لأسباب تافهة تحمل معنى التذمر وعدم الأحتمال
بولس لم يخطىء عندما قال : " لى اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح فذاك أفضل جدا " ( فى 1 : 23 ) .. أما يونان فقد أخطأ عندما قال لله : " الآن خذ نفسى لأن موتى خير من حياتى " . قالها عن تذمر ، فى وقت لم يكن فيه مستعدا للموت .
ومع أن هذا الأسلوب من يونان لم يكن لطيفا من الناحية الروحية ، إلا أنه على أية الحالات يدل على صراحته مع الله وكشفه لدواخله كما هى ... وبدأ الله يتفاهم معه ويقنعه
. قال له الرب : " أنت أشفقت على اليقطينة التى لم تتعب فيها ولا ربيتها ، التى بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت ، أفلا أشفق أنا على نيتوى المدينة العظيمة التى يوجد فيها أكثر من أثنتى عشرة ربوة من الناس ..... " ؟!
أما من جهة كلمتك التى تظن أنها سقطت ، أو بالأحرى كلمتى ، فأعلم أنها لم تسقط وأنا لم أتغير ،
" فالله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران " ( يع 1 : 17 ) .
+ + +
سيظل يسوع فاتحا ذراعيه لانه يريد نفسى التى مات عنها لكى يحتضنها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق