في ظهيرة أحد الأيام جاءني شماس في حالة ارتباك شديد، وإذ سألته عن سبب ارتباكه أجابني في مرارة: "لي زميل في العمل، قبطي، لا تعرفه إذ لم يدخل الكنيسة منذ سنوات طويلة من قبل مجيئك إلى هنا، ولا يوجد عنوانه بالكنيسة، إذ له ظروف خاصة، وهو يقطن بعيدًا قليلاً عن الكنيسة. أعرفه جيدًا، فهو شاب لطيف ومحب للغاية، كله مرح وحيوية. عرف بصراحته الزائدة حتى أنه لم يترك زميلاً، أيا كانت جنسيته، إلا ويروى له دقائق تصرفاته. لقد انحرف في حياة اللهو علنًا أمام زملائه، لكنه إذ أصيب بحادث سيارة كادت تنهى حياته قدم توبة صادقة. وفى أثناء علاجه بعد عودته إلى منزله أدرك الأطباء أنه مصاب بداء السرطان. حاولوا استئصال الأورام السرطانية لكنهم فوجئوا بالمرض قد تغلغل في كل بطنه، وقد صارحه الطبيب أن يدبر أمور عائلته المالية لأن أيام رحيله قد قربت... وها هو في البيت يطلبك". روى لي الشماس هذه القصة، وإن كان في شيء أكثر من التفاصيل، والآلام تمزق نفسه في الداخل. أحسست بصدق كيف كان هذا الشماس يتكلم بحبٍ، وكأنما المصاب أخوه شقيقه، والعائلة المسكينة من أهله المقربين إليه جدًا. ما أن سمعت الحديث حتى ملأت المرارة نفسي تمامًا، أشعر بمسئولية الكنيسة أمام مثل هذا الإنسان، حتى وإن لم يترك عنوانه بها، فقد كان عليها أن تبحث عن كل نفسٍ أتعبتها الخطية وسحبها العالم. تخيلت ماذا كان الموقف لو انتهت حياة هذا الشاب في الحادث؟ وممن يطلب دمه؟! هذا من جانب، ومن جانب آخر وضعت في قلبي أن أسرع إلى هذه العائلة، لإنقاذ نفس هذا الشاب، ومساندته حتى النفس الأخير، والاهتمام بالعائلة روحيًا ونفسانيًا... لم تمضِ إلا دقائق حتى كنت مع الشماس متجهين إلى بيت هذه الأسرة، لا أفكر ماذا أقول لشابٍ غريبٍ يواجه الموت وعائلة متغربة تنتظر رحيل عائلها، إنما كنت أعلم أن اللَّه محب البشر هو وحده الذي يقدر أن يسند أولاده ويقويهم في أشد لحظات الضيق. بعد أقل من ساعة كنت أقرع الباب، وإذا بسيدة طيبة تفتح الباب في هدوء عجيب مع بساطة، وهى تقول لي "صلِ يا أبانا من أجل (فلان) لكي يشفيه الرب". إذ طيبت خاطرها بكلمة بسيطة دخلت مع الشماس إلى حيث يرقد زوجها. لقد كان مستلقيًا على سريره بلا حراك، لكنه في حيوية عجيبة رفع رأسه وتعانقنا! كانت البشاشة قد انطبعت على ملامح وجهه، والفرح يملأ قلبه، فقد ابتهج بدخولنا، كأن السماء قد انفتحت أمامه. وأنا في داخلي كنت أتساءل: "هل هذا حال شاب يواجه موتًا أكيدًا، ويعرف أن رحيله قد اقترب جدًا، وليس من يتحمل المسئولية من بعده نحو زوجته وطفليه الغرباء؟" ما أبعد هذا المنظر عما اعتدت أن أراه في أرض المهجر، فإن كثيرين في حالة اضطراب، يخافون المرض أو الموت، ويرتبكون لأبسط الأسباب، إذا يشعرون بالذنب نحو أولادهم الذين أتوا بهم من وسط عائلاتهم إلى أرض غريبة وبعيدة. على أي الأحوال، رحب الشاب بقلبه وملامحه بي أكثر مما بلسانه، وطلبت من الكل مغادرة الحجرة لنبقى معًا ليعترف. لا أستطيع أن أتحدث عما دار في تلك اللحظات الخالدة التي كنت أشعر فيها بحق أن روح اللَّه القدوس كان يرافقنا بل يضمنا، وكأن السماء قد انفتحت والسمائيين يتهللون فرحًا! قدم الشاب توبة صادقة بعد سنوات طويلة، وامتزجت دموعه بفرحه الروحي مع سلام عميق. أما عن اعترافاته فليس من حقي أن انطق بكلمة واحدة منها حتى بعد رحيله. إنما أقول كانت نفسي في داخلي تهتز مع كل كلمة ينطقها وكل تنهد يصدر من أعماقه. انسحقت مع انسحاق قلبه، كما فرحت وتهللت لفرحه وبهجته. بعد الاعتراف عاد الشماس إلى الحجرة وأيضًا زوجة الشاب، ودار الحديث كله حول كلمة الإنجيل والتسبيح وحياة الشكر، كما كانت الأبدية هي مركز تأملاتنا معًا. طلب الشاب مجموعة من التسجيلات الخاصة بالقداسات الإلهية والتسابيح، حتى يقضى وقته وهو على السرير مشغولاً بمخلصه، كما طلب أن يتناول من الأسرار المقدسة. أحضرت له "الأسرار المقدسة" أكثر من مرة وكنت أزوره، وكثير من الأقباط كانوا يقدمون إلى بيته ليروا الشاب الذي يواجه الموت المؤكد بفرح وسرور! أقول بصدق أنه في كل زياراتي التي قمت بها إليه في أيامه الأخيرة لم أره قط عابسًا ولا مكتئبًا، بالرغم مما يعرف عن شدة آلام السرطان. لم أره قط متذمرًا بل كان كثير من المتألمين يقدمون إلى بيته ويخرجون وقد ملأ السلام قلوبهم. كانت أحاديثه مع زائريه تدور حول رعاية اللَّه له وحبه، وحول الأبدية التي يجرى نحوها وينتظرها. كثيرًا ما كان يردد هذه العبارات التي أتذكرها تمامًا: "صلِ يا أبانا من أجلى، لا لكي أُشفى، فأنا لا أخاف الموت، بل أشكر الذي هيأني للتمتع بالأبدية، لكنني أطلب ألا أدخل في الآلام المرة التي قال عنها الطبيب، لئلا بسبب ضعفى أخطئ، ولو بالفكر أو في قلبي، في حق اللَّه. أنا لا أطلب من اللَّه أن يطيل عمري من أجل الطفلتين، فهما ملك اللَّه، وهو الملتزم برعايتهما". مضت حوالي ثلاثة أسابيع ولم يدخل بعد الشاب في الآلام التي أخبره عنها الطبيب، لكن فجأة اتصلت زوجته تليفونيًا بالكنيسة لتخبر أن زوجها قد دخل في غيبوبة، وصار في خطر، وأنها تطلب الإسعاف لتحمله إلى المستشفى. وإذ علمت بالخبر في ساعة متأخرة من الليل ذهبت إلى المستشفى لكن هيئة التمريض أخبرتني أن زوجته قد عادت إلى بيتها، ليس معه أحد من أصدقائه. انه منذ دخل في الغيبوبة لم يتكلم مع أحدٍ. وها هو في أنفاسه الأخيرة. دخلت حجرته لأراه بين الأجهزة وحيدًا، اللَّهم إلا من رعاية إحدى الممرضات. وقفت أمام هذا الملاك الذي حمل الآلام بفرح وانتظر تلك الساعة ببهجة قلب. صليت ثم ناديته بصوت خافت جدًا، ففتح عينيه، لسانه عجز عن أن يتكلم، ابتسم قليلاً ليغمض عينيه الجسديتين، وبعد دقائق أسلم الروح
2008-05-28
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق