بحث مخصص

2008-11-17

قصة إيفـان أكسينـوف - 1


إيفان ديمتريش أكسينوف، تاجرٌ في ريعان الشباب، يتمتع بثروة طيبة لأنه يمتلك منزلاً، فضلاً عن تجارته الواسعة التي يُديرها في محلين من المحلات التجارية التي تزهو بها مدينة فلاديمير. كان أكسينوف يتميز بجمال الطلعة، فقسمات وجهه تروق للعيون، وشعره المجعد يميل إلى الصُّفرة، يكتسب قلوب الآخرين لِمَا يتصف به من حب المرح فضلاً عن شغفه بالغناء. في أيام شبابه الأولى اعتاد الشراب، وتحت تأثير الخمر كان يثير الضجيج والصخب. وساعده على إدمان الخمر أن المال كان يجري بين يديه كثيراً وفيراً، إلاَّ أنه بعد الزواج أقلع عن معاقرة الخمر إلاَّ في فترات متباعدة.في أحد أيام الصيف، عقد أكسينوف عزمه على التوجُّه إلى سوق نيزني، وأخذ يودِّع أسرته استعداداً للرحيل، ولكن زوجته استمهلته بيدها وهي تقول: "إيفان ديمتريش، أرجو أن تستمع لي، دعك اليوم من الذهاب إلى هذا السوق. يمكنك أن تؤجِّل ذلك إلى يومٍ آخر". ثم نظرت في عينيه التي ارتسم عليهما التساؤل، واستطردت تقول: "لقد رأيتُ حلماً عنك، إنه حلم مُقبض".ولكن أكسينوف أجابها بمرحه المعهود، وفكاهته التي لا تُفارقه: "ها ها، أنت خائفة لئلا تزوغ عيناي في السوق، أو أرتكب بعض الحماقات. اطمئني، يا عزيزتي، لن أنحرف عن جادة الصواب".ولكن زوجته عادت في نبرات جادة تقول: "لا أعلم بالضبط ما سر هذا الخوف؟ كل ما أعلمه أن الضيق يملأ قلبي بسبب هذا الحلم. لقد رأيتك عائداً من المدينة، ولكنك عندما خلعت قلنسوتك، رأيت شعرك وقد خطَّه المشيب".وعاد أكسينوف يضحك، ويُعاتبها قائلاً: "إن هذه علامة الحظ السعيد. سوف أبيع كل ما عندي من البضائع، وأُحضِر لك بعض الهدايا من السوق".ثم أسرع يُقبِّل أطفاله، ومضى في طريقه. وبعد أن قطع مسافة ليست بقليلة، وقارب منتصف الطريق، التقى بأحد التجار من أصدقائه، ولم يُخْفِ عنه سروره برؤياه. وسارا سويّاً حتى بلغا أحد الفنادق، واعتزما أن يقضيا ليلتهما فيه. وبعد أن تناولا أقداح الشاي، ذهبا للنوم في حجرتين متلاصقتين.لم يكن من عادة أكسينوف أن يتأخر في النوم، لا سيما إذا كان على سفر، لأنه يُفضل الرحيل باكراً، حتى يستقبل هواء الفجر العليل البارد وهو يهب رقيقاً على الكون. ولهذا فقد استيقظ قبل الفجر بقليل، وأيقظ سائق عربته، وأمره بربط الجياد إلى العربة، ثم عَبَرَ الفندق واتجه إلى كوخ في مؤخرته اتخذه صاحب الفندق مقراً له، وأيقظ أكسينوف صاحب الفندق، ودفع ما عليه من حساب، ثم استأنف رحلته.وقطع ما يقرب من خمسة وعشرين ميلاً، ثم توقَّف قليلاً ريثما تنال الجياد شيئاً من الطعام في إحدى الحانات، ووجد مقعداً في مدخل الحانة جلس عليه، ثم نهض بخطوات متثاقلة لكي يأمر بكوب من الشاي. وفي هذه الأثناء، أخرج قيثارته وبدأ يُداعب أوتارها، وانسابت من بين يديه أنغام عذبة تستريح إليها النفس في هذا الهدوء الشامل.ولكن قطع هذا السكون، عربة تجرها الخيول، وتدوِّي أجراسها في أرجاء المكان. ما إن وصلت إلى الحانة، حتى وقفت وترجَّل منها ضابط يتبعه جنديان. واتجه الضابط مباشرة إلى أكسينوف، يسأله عن اسمه، وعن البلد التي أتى منها. ولم يفهم أكسينوف معنى لهذا. إلاَّ أنه أجاب أسئلة الضابط في بساطة، وختم جوابه قائلاً: "تفضل تناول معي قليلاً من الشاي". ولكن الضابط مضى يوجِّه اسئلته: "أين أمضيت الليلة السابقة؟ وهل كنت وحيداً؟ أم كان يُرافقك تاجر آخر؟ وهل رأيت هذا التاجر في الصباح؟ ولماذا تركت الفندق قبل الفجر"؟!واستبدَّت الحيرة بأكسينوف، وهو لا يجد تعليلاً لهذا التحقيق. ومع ذلك وصف للضابط كل ما حدث بالضبط. ولم يجد بُدّاً من أن يوجِّه سؤالاً للضابط لكي يفهم ما يدور حوله، فقال: "ولكن لماذا توجِّه لي كل هذه الأسئلة؟ كأنني لص أو قاطع طريق! إنني مسافر لبعض شئوني الخاصة، ولا أستطيع أن أفهم الدافع وراء هذا السيل من الأسئلة".وعند ذلك أشار الضابط إلى الجنديين اللذين يتبعاه، وهو يواصل حديثه مع أكسينوف: "إنني ضابط الشرطة في هذه المقاطعة، وأسألك هذه الأسئلة لأن التاجر الذي كنت تُصاحبه بالأمس، وُجِد قتيلاً في الفندق، وقد قُطِعَت رقبته. وعلى هذا تقتضي الإجراءات أن نفتش حقائبك".ودخل ثلاثتهم إلى الحانة، وقام الضابط ومعه الجنديان بفتح حقائب أكسينوف، وقلَّبوا محتوياتها. وفجأة صاح الضابط، وهو يُخرج سكيناً طويلاً حاداً، ويثبِّت عينيه على عيني أكسينوف: "لمَن هذا السكين"؟ ووقف أكسينوف مبهوراً، وفغر فاه عجباً ودهشة، وحملق بعينيه في السكين وهو لا يكاد يُصدِّق ما يراه. فقد كانت السكين مُلطَّخة بالدماء، والضابط يُخرجها من حقيبته. وسَرَت في أوصاله رعدة عنيفة، وأخذ منه الخوف والهلع كل مأخذ، ووقف مأخوذاً لا يقوى على النطق. وعاد الضابط يلحُّ في السؤال، وآثار الدماء واضحة: "كيف أنت"؟وفتح أكسينوف فمه يحاول الكلام، ولكن الكلمات ماتت على شفتيه، ولكنه تمتم متلعثماً: "أنا، لا أعلم، ليست ملكي"!!وعاد الضابط يُشدِّد الخناق على أكسينوف قائلاً: "في هذا الصباح وُجد التاجر في فراشه، وقد قُطِعَت رقبته. وأنت هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يرتكب هذه الجريمة البشعة. كل الدلائل توجِّه أصابع الاتهام إليك. كان البيت مقفلاً من الداخل، ولم يكن في الداخل آخر سواك. ثم هذه السكين الملوثة بالدماء وجدناها في حقيبتك ووسط أمتعتك. وهوذا وجهك وسلوكك ينمان عليك! يحسن بك ألاَّ تراوغ، وأن تعترف. كيف قتلته؟ وكم من المال سرقت منه"؟وأقسم أكسينوف أنه لم يفعل شيئاً من ذلك، وأنه لم يَرَ التاجر بعد أن تناولا الشاي معاً، وأن معه ثمانية آلاف روبل (وهي العملة الروسية)، هي ملكه الخاص. أما السكين فلا يعرف عنها شيئاً. كـان صوتـه يرتعش، وعَلاَ وجهه شحوب شديد، وارتعدت فرائصه خوفاً، كأنه هو المذنب الجاني.ولم يكن في كل ما قاله أكسينوف ما يُقنع الضابط ببراءته، وهو يرى الأدلة دامغة ضده. فأصدر أمره إلى الجنديين بإحكام الوثاق حول أكسينوف وإيداعه في العربة. وبينما كان الجنديان يربطان قدمي أكسينوف إلى بعضهما، ويقذفان به إلى داخل العربة؛ رفع أكسينوف يُمناه ورسم علامة الصليب على وجهه، وانهارت قواه، وانخرط في البكاء بصوت مرتفع.صودر ما كان معه من بضائع وأموال، وأُرسل إلى أقرب مدينة، حيث أودعوه السجن. وبدأت سلسلة من التحقيقات المضنية، تناولت أخلاقه وسلوكه في (مدينته) فلاديمير. وقد شهد زملاؤه، التجار والجيران وغيرهم من سكان المدينة، أنه اعتاد في سالف الأيام أن يشرب الخمر، وأن يُسرف في الوقت والمال. ولكنه كان رجلاً طيباً دمث الأخلاق والطباع. ولما حان وقت المحاكمة، وُجِّهت إليه تهمة قتل التاجر وسرقة عشرين ألف روبل.

ليست هناك تعليقات:

 

website traffic counters
Dell Computers