بحث مخصص

2008-11-17

قصـة إيفان أكسينوف - 3


وعاد السجين يسأل: وما هي هذه الخطايا؟ واكتفى أكسينوف بقوله: حسناً. لابد وأني كنتُ أستحق ذلك. وأَبَى أن يزيد على ذلك حرفاً واحداً، ولكن رفاقه تكفَّلوا بالكلام بدلاً عنه. فأخبروا السجين الوافد بتفاصيل الأحداث التي أدَّت إلى هذا المصير الحزين: قَتَلَ أحد المجرمين تاجراً، ووضع السكين وسط أمتعة أكسينوف، فصدر عليه هذا الحُكْم الرهيب. وعندما سمع مكاري سيمنتش كل هذا، أطال النظر إلى أكسينوف، وربت بيده على ركبتيه، وقال له في دهشة: حقاً! إن هذا الأمر عجيب وغريب! كم بلغت من العمر الآن أيها الشيخ؟وبدأ الزملاء يسألونه عمَّا أدهشه في قصة أكسينوف، ومع أن سيمنتش لم يُحِر جواباً عن ذلك، إلاَّ أنه لم ينفك عن ترديد هذه العبارة: إنه لأمر غريب حقاً، أن نتلاقى - يا أولادي - في هذا المكان.وتحركت كوامن الأشجان عند أكسينوف، وأخذ يسأل نفسه عمَّا إذا كان هذا الرجل يعرف القاتل الحقيقي. ولهذا بادره بقوله:- سيمنتش، ربما قد سمعت شيئاً عن هذا الموضوع، أو لعلك رأيتني من قبل؟- وكيف لا أسمع؟ لقد امتلأت الدنيا بالشائعات، ولكن هذا حدث منذ زمن طويل، وقد نسيت ما سمعت.- لعلك سمعت عمَّن قتل التاجر؟! وضحك مكاري سيمنتش وهو يقول: لا شك أن القاتل هو الذي ضبطوا السكين في حقائبه! لو كان هناك آخر خبَّأ السكين هناك، على رأي المثل، ليس هناك لص إلاَّ ويُقبض عليه. كيف يمكن لإنسان أن يضع سكيناً في حقيبتك، مع أنها موضوعة تحت رأسك؟ مثل هذا العمل كان لابد أن يوقظك.ولم تَفُت أكسينوف كلمات السجين، وأيقن في نفسه أنه هو القاتل. كيف عرف أن القاتل خبَّأ السكين في حقيبته؟! ومن أين يعلم أن الحقيبة كانت تحت رأسه؟! ثم نهض وانتحى بعيداً، يطلب الهدوء والعزاء في الصلاة.في هذه الليلة، لم يغمض له جفن. فقد شعر بالتعاسة تُخيِّم عليه، وتراءت أمام عينيه الصور والذكريات والأوهام. تذكَّر صورة زوجته وهو يودِّعها عندما همَّ بفراقها إلى السوق، تمثَّلها أمام عينيه حية بلحمها وعظمها، رأى وجهها وعيناها شاخصتان إليه، سمعها تتكلَّم وتضحك. ورأى أطفاله، ما زالوا صغاراً تماماً، أحدهم يتدثر بردائه، والآخر يسند رأسه الصغير إلى صدر أُمه، ثم تذكَّر نفسه في غابر الأيام، مرحاً طروباً. تذكَّر كيف جلس في مدخل الحانة يعزف على قيثارته سعيداً خالياً من الهموم، ثم أُلقي القبض عليه، ورأى المكان الذي جُلِد فيه، والجلاَّد يحيط به المتفرجون. القيود والأصفاد والمساجين، عبرت أمام عينيه السنوات الست والعشرون التي قضاها في السجن، والشيبة التي كلَّلت هامته قبل الأوان. عندما تذكَّر كل هذا، أحسَّ بكأس الشقاء تفيض تعاسة على كيانه كله، حتى استبدَّت به رغبة إلى التخلُّص من الحياة!ثم عاد يُفكِّر كيف كان هذا الوغد هو السبب في كل ما حلَّ به من شقاء وأحزان. وغَلِي الغضب في صدره على مكاري سيمنتش، واجتاحت قلبه رغبة عارمة في الانتقام، حتى ولو أدَّى ذلك إلى القضاء عليه.وعاد من جديد يُردِّد الأدعية والصلوات طوال الليل، ولكنه لم يستطع أن يردَّ السلام إلى قلبه العاصف. وعندما بدأ النهار، لم يقترب إطلاقاً من مكاري، بل لقد تحاشى النظر إليه أيضاً.ومضى أسبوعـان على هذا المنوال، لم يستطع خلالهما أكسينوف أن يذوق طعم النوم خلال ليالي القلق الطويلة. ولم يُبارحه ذلك الشعور الماضي بـالمرارة والتعاسة، تتنازع نفسه نوازع مختلفة حتى بـدا له أنه لا يعرف ماذا يفعل.وفي إحدى الليالي، بينما كان أكسينوف يجول حول السجن، استرعى التفاته أن بعض التراب يتدحرج خارجاً من تحت أحد الألواح التي يرقد عليها المساجين، فتوقَّف قليلاً حتى يستجلي حقيقة الأمر. وفوجئ بمكاري سيمنتش يبرز من تحت اللوح الخشبي، ونظر هذا إلى أكسينوف، وقد ارتسمت على وجهه علامات الرهبة والخوف.وحاول أكسينوف أن يمضي في طريقه دون النظر إليه، ولكن مكاري، أسرع إليه وأمسك بيده وهو يعترف أنه حفر حفرة تحت جدار السجن، وأنه يتخلَّص من التراب الذي يحفره بإخفائه داخل حذائه الطويل، ثم يُلقيه كل يوم في الطريق الذي يقتادون فيه المساجين إلى عملهم، ثم ختم اعترافه قائلاً:- كل ما أرجوه، أيها العجوز، أن تكتم هذا السر، فتهرب معي أيضاً. أما إذا راح لسانك يهذي بما رأيتَ، فأنت تعرف العقاب الذي يحل بمَن يرتكب مثل هذه الجناية: الجلد حتى يُفارق السجين الحياة. إذا حدث هذا فلابد أن أقتلك أولاً!وسَرَت في عروق أكسينوف موجة من الغضب، وهو ينظر إلى عدوه، ولكنه نَفَضَ يده بعيداً عنه وهو يقول:- لم تَعُد بي أدنى رغبة في الهرب، وليس بك حاجة أن تقتلني، لقد فعلتَ ذلك منذ زمن بعيد. أما عن سرِّك، فقد أفشيه أو لا أفشيه، كما يوجِّهني الله.وعندما اقتيد المساجين إلى العمل في اليوم التالي، لاحَظ الحرَّاس أن أحدهم يُلقي بعض التراب من حذائه. وفي الحال بدأ تفتيش السجن تفتيشاً دقيقاً. وسرعان ما اكتشفوا الحفرة، وأتى مأمور السجن، وأشرف على التحقيق مع جميع النزلاء بحثاً عن الجاني. وأنكر الجميع علمهم بأي شيء، والذين منهم كانوا يعرفون الحقيقة لم يفصحوا عنها، لأنهم يعرفون العقاب الرهيب الذي يحل بمكاري: الجلد المؤلم حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.وفي محاولة أخيرة لمعرفة الحقيقة، التفت المأمور إلى أكسينوف - الذي كان موضع ثقة الجميع لأمانته - وقال له: إنك رجل عجوز صادق. قُل لي أمام الله: مَن حفر هذه الحفرة؟كان مكاري سيمنتش منتصب القامة، كما لو كان الأمر لا يعنيه إطلاقاً، عيناه لا تُفارقان وجه المأمور، لا تبدر منه بادرة تدل على الاهتمام بالموضوع، حتى أنه لم يلتفت كثيراً نحو أكسينوف.مضت فترة ليست بالقصيرة، لم يستطع أكسينوف خلالها أن ينطق بحرف واحد. كان يفكر: لماذا أتستر على هذا الشقي الذي حطَّم حياتي؟ دَعْه يدفع الثمن الذي يستحقه إزاء ما قاسيته أنا، ولكن لو تكلَّمت، سيُجلد حتى الموت، ومَن يدري فقد تكون ظنوني غير صحيحة، ثم ما الفائدة التي تعود عليَّ من موته؟ وعاد المأمور يسأل: حسناً، تكلَّم يا شيخ، وقُل الصدق: مَن الذي حفر تحت الجدار؟ونظر أكسينوف إلى مكاري سيمنتش، ثم أجاب:- لا أستطيع أن أتكلَّم، يا سيدي، إن الله لا يريدني أن أبوح بشيء، افعل بي ما شئت، هأنذا بين يديك.وحاول المأمور أن يستدرجه إلى الاعتراف، ولكنه أَبَى أن يزيد حرفاً واحداً عمَّا قال، ولهذا تقرر حِفظ الموضوع.في تلك الليلة، بينما كان أكسينوف راقداً في فراشه كالمعتاد، وقد بدأت تأخذه سِنة من النوم، لمح في طيات الظلام شبحاً يتقدَّم نحوه في حذر وهدوء، حتى وصل إلى فراشه وجلس إلى جواره، وحملق أكسينوف في هذا الشبح.وعرف فيه شخص مكاري، فابتدره في صوت أجش: ماذا تريد مني بعد كل هذا الذي فعلته، لماذا أتيتَ هنا؟ولم يتكلَّم مكاري، وأخلد إلى الصمت، وخيَّم عليهما سكون قاتل تعلَّقت فيه الأنفاس. ولكن أكسينوف قطع هذا الصمت قائلاً: ماذا تريد؟ اذهب عني وإلاَّ دعوت الحرَّاس! وانحنى مكاري سيمنتش، واقترب بوجهه من أكسينوف، ثم همس بصوت تقطعه حشرجة مخيفة: إيفان ديمتريش، سامحني واصفح عني!- عن أي شيء؟- أنا الذي قتل التاجر، وأخفى السكين في أمتعتك. كنتُ على وشك أن أقتلك أنت أيضاً لولا أني سمعت ضجيجاً في الخارج، فأخفيتُ السكين في حقيبتك، ثم هربت من النافذة.وصمت أكسينوف، ولم يعرف ماذا يقول. أما مكاري فقد انزلق من حافة الفراش، وركع على الأرض وهو يتشبث بثياب أكسينوف قائلاً:- إيفان ديمتريش، سامحني، اغفر لي من أجل محبة المسيح. سأعترف بجُرمي ويُطلقون سراحك وتعود إلى بيتك.- سهل عليك أن تتكلَّم، أما الألم والمعاناة فقد قاسيتهما هذه الست والعشرين سنة، والآن أين يمكن أن أذهب؟ زوجتي ماتت، وأطفالي نسوني، وأصبحت غريبـاً عليهم. ولا أريـد أن أكون لهم عـاراً. يـا صديقي ليس لي مكان أذهب إليه.ولم ينهض مكاري، بل ضرب رأسه على الأرض، ينتحب ويقول: إيفان ديمتريش، سامحنى. إن الجلد بالسياط أهون بكثير من النظر إليك. رغم خطيتي أشفقت عليَّ ولم تَبُح بجُرمي. من أجل خاطر المسيح سامحني أنا الشقي. ثم بدأ يجهش بالبكاء.ولما سمع أكسينوف بكاءه، لم يستطع أن يُقاوم رغبته في البكاء، فأجاب مكاري بصوت تُبلِّله الدموع السخينة، وتقطعه الزفرات:- الله يسامحك. مَن يدري فربما كنتُ أكثر منك شرّاً.وبعد تلك الكلمات أحس قلبه يخفق بالسلام والهدوء، وزايلته تلك الرغبة التي اضطرمت في صدره شوقاً إلى أسرته وبيته. ولم تَعُد به رغبة إلى مفارقة السجن أو نزلائه، فقد أحبهم وأحبوه. كان ينتظر فقط ساعة الرحيل.+++ ورغم كل محاولات أكسينوف لكي يثني مكاري عن عزمه في الاعتراف بجريمته، فإن هذا الأخير أصر على عزمه، واعترف فعلاً بجريمته، وسارت إجراءات العفو عن أكسينوف السجين في مجراها. وأخيراً، صدر قرار الإفراج عنه، وتردَّد صداه بالفرح بين النزلاء جميعاً وذهبوا لكي يُقبِّلوه ويُهنئوه، ووجدوه راقداً في فراشه بسلام. إذ أنه كان قد مات منذ لحظات!! +

ليست هناك تعليقات:

 

website traffic counters
Dell Computers