كانت زوجته في يأس مُطبق، وانتابتها الحيرة، لا تعلم أيهما تُصدِّق! كان أطفالها ما زالوا في طور الطفولة المبكِّر، وأحدهم كان رضيعاً. أخذتهم جميعاً، ويممت وجهها شطر المدينة، حيث كان زوجها خلف أسوار السجن. في بادئ الأمر، لم يُسمح لها برؤيته، ولكنها - بعد توسُّل وإلحاح - حصلت على إذن من السلطات المختصة، فدخلت لزيارته. وما كادت ترى زوجها في ملابس السجن القاتمة، يرسف في الأغلال والسلاسل، سجيناً بين اللصوص والمجرمين، حتى غامت عيناها، وسقطت - من هول الصدمة - على الأرض مُغشياً عليها، ولم تسترد وعيها قبل فوات وقت طويل.ولما أفاقت، جذبت أطفالها إليها، وجلست بالقرب من زوجها، تحدِّثه عما يجري في بيتها، وتسأله عمَّا حدث له. فأخبرها بكل شيء، لم يترك شاردة أو واردة إلاَّ رواها. ثم سألته زوجته: "وماذا يمكننا أن نفعل الآن"؟ وأجابها قائلاً: "يجب أن نرفع إلى القيصر التماساً، حتى لا يسمح بالقضاء على رجل بريء".ولكن زوجته أخبرته أنها قدَّمت هذا الالتماس بالفعل، ولكن مصيره كان الرفض، وطأطأ أكسينوف رأسه ولم يُحِر جواباً، وأطال النظر إلى الأرض.وعادت زوجته تقول:- "ألم أقل لك؟! لم يكن ذلك الحلم عبثاً أو أضغاث أحلام. لقد رأيت الشيب يُكلِّل رأسك. أَلاَ تذكر؟ كان يجب ألاَّ تخرج في ذلك اليوم المشئوم".ثم مرَّت برفق على رأسه وهي تقول:- "حبيبي فانيا، قُل لزوجتك الحقيقة، هل أنت حقاً الذي فعلت هذا الأمر"؟فأجابها:- "حتى أنتِ أيضاً تشكِّين فيَّ"؟!وعند ذلك أقبل أحد الحرَّاس، وفي فظاظة وغلظة، أعلن لهم أن موعد الزيارة قد انتهى، فودَّع أكسينوف أسرته، لآخر مرة.وعندما غابوا عن عينيه، أخذ يسترجع كل ما دار من أحاديث. وعندما تذكَّر أنَّ حتى زوجته قد راودها الشك في أمره، قال لنفسه: "يبدو أنه لا يمكن لأحد أن يعرف الحقيقة إلاَّ الله وحده. له وحده أرفع شكواي، ومنه وحده أنتظر الرحمة".وبعد ذلك عزف أكسينوف عن كتابة الالتماسات، وفَقَدَ الأمل تماماً. ولم يجد أمامه طريقاً لراحة النفس سوى الصلاة والتضرُّع لله.وأخيراً، صدر عليه الحُكْم بالجلد والنفي إلى المناجم. وبعد أن تمَّ جلده بالسياط، والتأمت الجروح التي نجمت عنها؛ اقتادوه مع غيره من المحكوم عليهم بالسجن إلى سيبيريا.وقضى هناك ستاً وعشرين سنة، واستحال شعره أبيض كالثلج، ونمت لحيته واستطالت وغزاها المشيب. وتسللت من قلبه روح المرح، فتقوس ظهره وانحنى، واعتاد أن يمشي في بطء وتثاقل. لا يتكلَّم إلاَّ في القليل النادر. ولم ترتسم على شفتيه ابتسامة قط، ولكنه انصرف في أكثر الأحيان إلى عزائه الوحيد: الصلاة.وتعلَّم أكسينوف في السجن صناعة الأحذية، واستطاع بها أن يكسب القليل من المال، اشترى به كتاب "سِيَر القديسين"، وداوم المطالعة في هذا الكتاب، كلما سمح الضوء بذلك في السجن المُعتم. وفي أيام الآحاد كان يحث خُطاه إلى كنيسة السجن، حيث يقرأ الرسائل، ويشترك في إنشاد الألحان الكنسية بصوت رخيم، فقد كان صوته ما زال محتفظاً بجماله.وأُعجبت سلطات السجن بأكسينوف، بسبب وداعته. كما احترمه زملاؤه المساجين وأحبوه حتى أطلقوا عليه "الجد" تارة، ولقب "القديس" تارة أخرى. وكلما أرادوا أن يطلبوا شيئاً لأنفسهم من المسئولين، كان أكسينوف هو مندوبهم المتحدث باسمهم. وإذا حدث خلاف بينهم، أو نشب عِراك، كان يلجأ المختصمون إليه حتى يفصل في منازعاتهم، ويردُّ المياه إلى مجاريها.وانقطعت أخبار الأسرة تماماً عن أكسينوف، ولم يعرف حتى إذا كانت زوجته وأولاده على قيد الحياة، أم عبثت بهم أيدي الزمن وصل إلى السجن فريق جديد من المحكوم عليهم. وعندما حلَّ المساء، اجتمع المساجين القدامى مع زملائهم الجُدُد، يتعرَّفون عليهم، ويسألونهم عن المدن والقرى التي أتوا منها، والجرائم التي اقترفوها وحُكِم عليهم بسببها. وفي وسط هذه الجماعة، جلس أكسينوف على مقربة من النزلاء الجُدُد، ينصت إليهم، بينما أخلد هو إلى الصمت ونكَّس رأسه. وبين هؤلاء الضيوف، كان أحدهم طويل القامة، قوي البنية، وإن كان قد تخطَّى الستين من العمر، وقد نمت في وجهه لحية قصيرة حليقة قد غمرها الشعر الأبيض. أخذ هذا النزيل يتحدث إلى الآخرين عمَّا ارتكبت يداه، وأدَّى إلى القبض عليه.- حسناً، أيها الأصدقاء، كل ما فعلتُ أني أخذتُ حصاناً قد رُبط إلى عربته، فقُبض عليَّ، واتُّهمتُ بالسرقة. قلتُ لهم إني أخذتُ الحصان، لأني كنتُ في حاجة إلى الوصول إلى بيتي بأقصى سرعة، وكان في نيَّتي أن أُطلقه حتى يعود إلى صاحبه مرة أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان سائق العربة صديقاً لي، وهذا يؤكِّد أن كل شيء على ما يرام، وليس في الأمر جريمة ما. ولكنهم عزفوا عن سماع أقوالي، وأصروا أني سارق ولص مع أنهم فشلوا في الاستدلال على كيفية السرقة ومكانها. ومع ذلك، فالحقيقة أني قد أتيتُ هنا بعدل. لقد ارتكبتُ في يومٍ من الأيام ذنباً لم يكتشفه أحد، ولكن كان يجب أن أكون هنا منذ وقتٍ طويل. أما الآن فقد اقتادوني إلى هنا بلا ذنب ولا جريرة - ثم نَدَتْ عن صدره زفرة عميقة وهو يقول - إيه!! إنكم تحبون الأكاذيب التي أرويها لكم. في الواقع قد جئتُ إلى سيبيريا من قبل، ولكني لم أمكث طويلاً.ورفع أحدهم صوته متسائلاً: مِن أي بلد أنت؟واتجه بنظره نحو السائل وهو يقول: من فلاديمير. أسرتي منها، واسمي مكاري ويدعونني أيضا "سيمنتش". وما كاد أكسينوف يسمع اسم مدينته، حتى رفع رأسه، ووجَّه الحديث إلى السجين الجديد: قُل لي يا سيمنتش، هل تعرف شيئاً عن أحد التجار في فلاديمير، يُدعى أكسينوف؟ وهل هناك أحد من أسرته على قيد الحياة؟ - طبعاً أعرفهم. إن عائلة أكسينوف من الأثرياء، وإن كان أبوهم قد قُضِي عليه بالسجن في سيبيريا. يبدو أنه خاطئ مثلنا تماماً! وأنت أيها الكهل العجوز، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ولما كان أكسينوف لا يستهويه الحديث عن نكبته، فقد آثر عدم الاستطراد في الكلام، فاكتفى بالتنهُّد وهو يقول: من أجل آثامي وخطاياي، قضيتُ حتى الآن ستاً وعشرين سنة في السجن.
2008-11-17
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق