أغلب الشباب يحبون السيارات.. أقصد يحبون قيادتها ، وقيادتها بسرعة على وجه الخصوص، والذين لا يحبون قيادتها - ربما بسبب الخوف- يكتفون بمتابعة أخبارها وأسواقها وأسعارها
كنت أحلم منذ كنت فى المرحلة الإعدادية بأن تكون لدىّ سيارة " بى إم " أو " جولف " وكنت أسرح بخيالى كثيرا فأجد نفسى داخل واحدة منها وقد إعتنيت جيدا بها وزودتها بالكماليات ، لا سيما سماعتين ستيريو من الخلف ، وفى ال " سى دى كاسيت " أدير شرائط الموسيقى الغربية وأرفع الصوت عاليا واصحب معى بعض من أصدقائي ، ننطلق بها مسرعين فى شوارع مصر الجديدة فى حالة من الرومانسية أميل ذات اليمين وذات الشمال مع عجلة القيادة
حقيقى أن الأمر تغـّير الآن فقد أصبحت فى الجامعة ولدى سيارة بالفعل ولكنها متواضعة وتؤدى الغرض وأحافظ عليها كثيرا
ولكن تلك الأحاسيس سيطرت عليّ فى ذلك السن الصغير ، فكلما أبصرت سيارة تمرق على الطريق وأعجبتنى ، تخيلت ذاتى فى الحال مالكها ، وكنت حريصا على متابعة المجلات التى تصدر فى هذا الإطار وكذلك ملاحق الجرائد المخصصة لأسواق السيارات ، ولم أنسى أن أزين جدران حجرتى بصور بعض السيارات الفارهة
كنت فى السادسة عشرة من عمرى ، حين حدث ذلك ، فقد كان يمتلك أبى سيارة " فيات " ولم يكن هو ينظر إليها باعتبارها ترفيها أو ركنا رئيسيا يكتمل به الشكل الإجتماعى ، وإنما لإنجاز أعماله، ومن ثم فقد كان كثيرا ما يئن منها ويضجر بسبب متاعب المرور أو أعطالها أو الإرهاق الناتج عن قيادتها ، وكنت أنا أتعجب كثيرا عندما أسمعه يردد أمام أمى مثل هذا الكلام ، فأستنكر كيف يضيق إنسان بسيارة يمتلكها
وكان أبى كريما معى ينتهز كل فرصة ليغدق عليّ هداياه ، وعندما تفوقت فى إمتحانات الشهادة الإعدادية قبل ذلك التاريخ بعام ، سألنى بحنو عن الهدية التى أرغب فيها، فقلت بهدوء مفاجئا إياه : أريد سيارة
وضحك هو كثيرا واعتبر الامر مجرد دعابة أو نادرة ! فأجاب متهكما : فماذا عساى أن أحضر لك متى تخرجت فى الكلية ؟ ! ... وحاولت من جانبى أن أبدو جادا فى طلبى ، ولكنه أصر على التعامل مع هذا الطلب باستخفاف ، ولما رحت ألاجج معه ، حسم الأمر قائلا : سنناقش هذا الأمر فيما بعد
ولكنه فى اليوم التالى لاحظ أننى لست سعيدا ، وكان يعرف ذلك بمجرد نظره إلىّ ، وعلى العشاء بادرنى بالسؤال عما يكـّدر صفوى فأجبته : لاشئ
هو : بل تبدو غير سعيد
أنا : أنت تعرف
هو : كلا فعرفنى
أنا : السيارة
فدهش لكونى مازلت أجتر فى هذا الأمر منذ الأمس وقال لى : إن السيارة لن تصنع منك رجلا ، وكذلك السيجارة ، ومثلها الملابس التى يرتديها الانسان . كما أنك لست فى احتياج حقيقى لها فى هذه السن ، والأفضل أن تمتلك سيارة عندما تتخرج وتعمل حيث تحتاج عندئذ إلى توفير الوقت والجهد ، كما أن السن الصغير يمثل خطورة بالنسبة لقيادة السيارات ، لا سيما داخل القاهرة التى يقطنها 14 مليونا ( فى ذلك الوقت ) وتمرح فى شوارعها مئات الآلآف من السيارات
أنا : ولكن بعضا من أصدقائى لديهم سيارات
فأجاب بدهشة : فى هذه السن ؟ ! فأكدت له ذلك ذاكرا بعضا من أسماء زملائي، فعلق متحمسا : إن الأب والأم اللذان يسمحان بذلك لإبنهما هما فى الواقع يؤذيانه أيما أذيه ، وليس فقط يغامران بعشرات الألوف من الجنيهات ، وإنما يعرضـّان حياته للخطر من أكثر من جهة
أنا : ولكنك تستطيع شراء سياره لى
هو: نعم ، ولكنه يجب على الإنسان أن يقتنى مايحتاج إليه متى كان قادرا ، فالناس لا يمتلكون كل ما يحتاجون إليه ، مثلما يشترى أخرون ما لا حاجة لهم به ثم راح يحدثنى عن الشكر وعد الغيرة من الآخرين ، وأن أهتم بما يبنيني ويطور شخصيتى أكثر من الأمورالشكلية، فإن الذى يقنع الآخرين بي هو شخصيتى وليس سيارتى. واختلفنا. ولكن أبى والذى تأكد من تذمرى لاطفنى كثيرا ووعدنى بأن ينظر فى هذا الأمر، وأنه سيبدأ فى تعليمى القيادة أولا كلما سنحت الفرصة بذلك.. وهكذا مرّ الأمر بسلام ... مثل أى طفل يتشبث بما لا ينفعه أو يناسبه. وكان بين آن وآخر يسمح لي بأن أدير محرك السيارة وهو جالس إلى جوارى
وإلى أن جاء يوم .. كان أبى قد عاد من عمله فى موعده اليومى عند الثانية ظهرا ، وبدأ برنامجه التقليدى حيث يأخذ حماما يجلس بعده إلى المائدة ليتناول طعامه ، ثم يأوى إلى فراشه لينال فسطا من النوم قبل الخروج من جديد للعمل والذى يستمر إلى نحو العاشرة ليلا فى تلك الظهيرة سيطرت علىّ فكرة طائشة واستسلمت لها فما أن استسلم أبى للنوم العميق حتى تسللت إلى حجرته ، ثم تقدمت على أطراف أصابعى متجها نحو سرواله المعلق إلى جواره ، وبهدوء إنزلقت أصابعى داخل جيبه لتخرج مفاتيح السيارة فى سلاسه ويسر ! وعدت أدراجى خارجا من الحجره، بينما كانت أمى منشغله فى بعض شئونها فلم تلحظ تسللى إلى خارج الشقة، وفى دقائق كنت أقف أمام السيارة ولم أنتظر طويلا فقد وضعت المفتاح فى الباب وأدرته فانفتح ، وقفزت على الكرسى أمام عجلة القيادة وأغلقت الباب ، وأدرت السيارة.... لقد كنت فى حالة ولَـه شديد ، أشعر بلذه أسطورية مثل أبطال اليونان... تم كل ذلك فى دقائق معدوده ، ثم حركت السياره...وأسرعت.. وإذا بها تقودنى ولست أنا... وانزلقت السيارة مسرعه فى شوارع مصر الجديده الهادئة فى ذلك الوقت من التهار الحار. وراحت تدور بى من شارع إلى آخر ومن ميدان إلى ميدان، كل ذلك يحدث وأنا لا أفكر فى شئ ، حتى فوجئت بسيارة تقف أمامى ولم أكن بالطبع مستعدا لاتخاذ موقف مناسب كقائد سياره ، ففى لحظة اصطدمت سيارتى بمؤخرة تلك السيارة بقوة... قبل ان تسكن تماما ويتوقف مخركها عن الدوران... وفوجئت بشخص ضخم البنية يقف أمام باب " سيارتى " كان الرجل الذى يرتدى نظارة سوداء ثائرا بالطبع يلعن الآباء الذين يتركون سياراتهم لمراهقين مثلى دون مراعاة لما قد ينتج عن ذلك من حوادث قد تودى بأعمار آخرين... ولما هـّم بالتفوه بألفاظ جارحه بادرته بالاحتجاج، وكان بعض الماره قد تجمعوا فطلبوا منى الذهاب لإحضار والدى ! وكان ذلك أكبر عقاب يمكن أن أناله ... كما كان أصعب موقف يمكن أن يواجهه فتى مثلى، نتيجة تصرف طائش كهذا
وتركت موقع الحادث .. وأسرعت أجر أذيال الخجل والضيق نحو البيت ، لقد كان الموقف عصيبا بالنسبة لى، فأمامى عدة عقبات صعبة علىّ اجتيازها
كيف أيقظ أبى وهو نائم مطمئن... وسيارته أمام باب العمارة .. وبنطلونه معلق إلى جواره وبداخله مفتاح السياره لقد سرقت المفتاح.. وتحركت بالسيارة.. وصدمت أخرى بها.. وأتلفتها .. وأنشبت خلافا مع شخص لا أعرفه وقد يكون شريرا.. ولا أعرف كيف ستكون عاقبة ما حدث وذكرنى ذلك بفأر ساذج أغراه الطعم فى المصيده فانسل غير عابئ بالعواقب والآن يعانى داخل المصيده والتى أقفلت عليه ، ومثل الخطية التى يخطف بريقها البصر فيندفع الانسان نحوها فى سكره أو نشوه، ليعانى عقب السقوط من مرارة الحسرة وألم الندم
ولا أعرف كيف وصلت إلى الشقة، ورحت أضغط متواصلا على جرس الباب ، وفتح لى أخى الصغير ولم أبال بدهشته إذ توجهت من فورى إلى حجرة نوم أبى حيث وجدته على حاله منذ تركته نائما فى سلام عميق ... وتسمرت فى مكانى أمامه .. وشتان بين وقفتى أمامه الآن ووقفتى أمامه منذ أربعين دقيقة.. وتمالكت نفسي قليلا ورحت أهمس: بابا .... بابا وتحرك أبى قليلا فى رقدته ولم يرد ، وعدت من جديد أناديه همسا، فرد بصوت متقطع مستنكرا حرمانه من تلك الدقائق التى يستعيد فيها حيويته، ولكنى واصلت إلحاحى، فأشار علىّ - وهو مازال مغمضا عينيه - أن اتحول لأمى لتقضى لى ما أريد ولكنى أريده هو ... إن الأمر يخصه... وازدادت دقات قلبى اضطرابا... ثم ناديته بنبره لا تخلو من الانزعاج ، وفتح عينيه ثم حرك رأسه بسرعه ينفض عنها النوم ونظر إلىّ فى هدوء قائلا : نعم
وأجبت مترداد : بابا
هو : نعم ! ! فقلت وكأنى أسكب جميع ما فى الإناء دفعة واحدة : لقد أخذت مفتاح السيارة - ولم أترك له الفرصة ليندهش ، فواصلت بسرعة - وقـٌدتها وصدمت بها سياره أخرى ومرّت لحظات كأنها الدهر ، ثم إذا به يسند رأسه إلى الخاف ويغمض عينيه لحظات ثم يفركهما بيديه، حيث بدا لى أنه قد استوعب تماما ما حدث .. ولم ينبس ببنت شفه ، بل قام فى هدوء واتجه نحو الحمام ليغسل وجهه بسرعه ثم عاد إلى الحجره يرتدى ملابسه، بينما جلست أنا متهالكا فى احد الكراسى مطرقا رأسى واضعا إياها بين كلتا يدي
وأحسّت أمى بشئ ما غير عادى ، فهرولت نحو أبى تسأل عن الأمر، فأجاب أبى : لا شئ ، ولكنها عادت لتلحّ فى السؤال، موجهه الكلام نحوى ، فلم تتلق منى جوابا ، ورفعت رأسي بيدها لتجدنى فى نوبة بكاء شديد ، فزاد اضطرابها ولكن ابى أسرع فطمأنها بعبارة سريعة ولمحت أبى يضع فى جيب سترته دفتر الشيكات ، وخرج وأمى تمطره بوابل من الأسئله، ثم جاء ووقف إلى جوارى ثم سألنى بهدوء شديد : هل أصيب أحد ؟ فأجبته بهزه نفى من رأسى وحينئذ لف ذراعه حولى وانحنى عليّ يقبلنى وهو يقول : لا تخف
ولن يستطيع أحد أن يتخيل وقع هذه الكلمة عليّ فى تلك اللحظة بالذات ، فلم اشعر براحة وطمأنينة فى شتى مواقف حياتى قدر شعورى بها فى ذلك الموقف ، لا سيما وأن الذى يقولها هو من سيدفع ! ! ... وبالتالى فلو كنت قد سمعتها من أى عابر سبيل فى موقع الحادث لما كنت قد اكترثت ، أو سرت فى بدنى تلك الراحة اللذيذه عندما قالها أبى ، وهو المسئول عن السياره والذى أعفانى من المسئولية وسيدفع ثمن غلطتى ، إنها تذكرنى بعبارة : " الله يحالك " التى يقولها أب إعترافى بعد الاعتراف وهو يضغط على آخر حروفها... معلنا أن الله قد نقل عنى خطيتى ليضعها فوقه هو ولستم بحاجة لمعرفة بقية القصة فهى غير مهمة لقد مضى أبى إلى هناك وأنهى الأمر مع صاحب السياره الأخرى فى دقائق متعهدا بدفع نفقة الاصلاح تاركا له بطاقته... ولم يعاتبنى ابى قط على تصرفى ذلك ، وعندما سألته أمى عن ذلك قال لها : يكفيه عقابا ما لاقاه فى مسرح الحادث، وهو كفيل بتلقينه الدرس ولما سألتنى أمى بدورها أجبتها : الآن أدركت معنى قول المسيح " لا تخف " ... فإن الكلام أو الوعد يستمد قوته من مصداقية قائله وقدرته ، وكأن وعد السيد المسيح : رصيد متروك لنا نسحب منه كل يوم ، وإن كان شعورى بالراحة والطمأنينة كبيرا عندما سمعتها من أبى ، فكم وكم تكون فرحتى وسرورى متى سمعتها من فم الله نفسه كل يوم ، فقد قيل لنا أنها موجوده فى الكتاب المقدس فى صيغ متعدده حوالى 360 مره، وكأن الله يقول لنا كل يوم من أيام السنة " لا تخف " .... حقا كان أبى عظيما