بدأت الزيارة حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل حيث انطلقت مع بعض الأساقفة والكهنة إلى منزل أحد العاملين في بلدٍ أوربي، وكان معنا شاب أعزب يتسم بالبساطة؟ روى لنا الشاب قصة عاشها بنفسه، فقال: كان لديّ سيارة جديدة، تحطَّمت تمامًا في حادثة، واشتريت السيارة التي استخدمها الآن. كنت سعيدًا جدًا حينما شاهدتها قد تحطَّمت، لأنني أشعر أني استحق هذا!" استطرد الشاب البسيط حديثه، قائلاً: جئت إلى هذه المدينة، وقد وضعت في قلبي ألاّ أتدنس. بدأت مثل كثير من الشباب القادمين من مصر أعمل في مطعمٍ، لكي أشق طريق حياتي في بلدٍ غريبٍ. فوجئت برئيستي في العمل تحبني جدًا. حاوَلَت الالتصاق بي بكل وسيلة. صارحتني أنها تفكر في الطلاق من زوجها، وطلبت مني أن أتزوجها، فرفضت تمامًا، وأوضحْت لها أنني لا أقبل هذه العلاقة مطلقًا. استغلت ظروف غربتي، فكانت تطلب من مدير المطعم أن تأخذني معها لإتمام بعض التزامات خاصة بالمطعم، ظنًا منها أن لقاءنا معًا بمفردنا في السيارة قد يؤثر عليّ. حاولت بكل الطرق أن تنفرد بي، لكنني كنت جادًا معها في أعماقي الخفية كما في سلوكي. حاولت أن تقّبلني فكنت أرفض. وضعت في قلبي ألاّ أخطئ مهما كلفني الأمر. لكن تحت الضغط الشديد وفي ظرف معين استسلمت مرة واحدة إلى لحظات، غير أنني سرعان ما تداركت الأمر، وظهر الحزن عليّ دون أن أمارس الشر بصورته الكاملة. لم احتمل التهاون من جانبي، وشعرت أنني فقدت الكثير... ووقَفَت هي أمامي تتعجّب لما يحدث، كأني إنسان شاذ لا مشاعر له. صارت خطيتي أمامي، وأدركت أنني استحق تأديبًا إلهيًا حتى تتمرّر الخطية في حياتي، هذه التي استسلمت لها إلى لحظات. قدَّمتُ توبة أمام اللَّه، وأحسست بالندم لا يفارقني. اعترفت بخطيتي أمام أب اعترافي، ووعدت اللَّه في حضرته ألاّ أبقى في هذا العمل مهما كانت الظروف. لم تمض أيام كثيرة حتى كنت مع صديق لي نتجه بسيارتي إلى مكان معيّن، وكنّا نستمع إلى بعض أغاني مثيرة عِوض الاستفادة بوقتنا. في الحال مددت يدي وأخرجت "الكاسيت" ووضعت بدلاً منه "كاسيت" لقداسٍ إلهي. كنت أستمع إلى تسجيل القداس الإلهي وأنا متهلل جدًا باللَّه، حتى جاء القول: "مستحق وعادل؛ مستحق وعادل..." وإذا برجلٍ مخمورٍ يقفز فجأة نحو العربة، وكان الوقت ليلاً، ونحن في طريق زراعي. حاولت تفاديه ففقدت سيطرتي على عجلة القيادة، وانحرفت السيارة عن الطريق، وسقطت، وانقلبت بنا خمس مرات. وجدت نفسي مع صديقي خارج السيارة؛ كيف؟ لا أعلم، خاصة وأنني كنت أستخدم حزام السيارة. تطلَّعت إلى صديقي وقلت له وأنا أتأمل السيارة: "أني مسرور للغاية". تطلًّع إلىّ صديقي إذ حسبني أتحدث في غير وعي نتيجة الصدمة. أكملت حديثي: "أنا أعلم لماذا سمح اللَّه لي بتحطيم السيارة. أشكره لأجل محبته لي واهتمامه بي". كانت علامات الفرح واضحة عليّ. جاء رجل الشرطة لمعاينة الحادث، فسألني: "من بداخل السيارة؟" فقد توقّع أن من بداخلها حتمًا قد مات. قلت له: "لا أحد؛ فقد خرجت أنا وصديقي كما ترانا، ليس بنا (خدش) واحد!" قال رجل الشرطة في دهشةٍ: "مستحيل! كيف خرجتما من السيارة وقد تحطمت تماماً؟!" ثم استطرد حديثه قائلاً: "في الأسبوع الماضي، وفي نفس الموقع انحرفت سيارة، وانقلبت بنفس الكيفية، ومات من كان يقودها!؟" عُدت إلى منزلي وحسبت نفسي قد ربحت الكثير... لا أدري ما هو هذا الربح، إنما كان قلبي متهللاً، وأعماقي مملوءة فرحًا، مع أنه لم يكن لديّ المبلغ الكافي لشراء سيارة أخرى، ولم يكن التأمين يغطيني. أكمل الشاب قصته فروى لنا أنه عاد إلى عمله بعد أن قرر أن يُسرع في تركه، ليس خوفًا من أن تحلّ به عقوبة ما - أي تأديب إلهي، أو خسارة مادية تلحق به - وإنما شوقًا نحو خلاص نفسه. روى لنا كيف لمس يدّ اللَّه تدفعه للترك. فقد جاءته رئيسته التي شعرت بأن كل وسائل اللطف قد فشلت في جذبه إليها، فأرادت أن تستخدم وسائل الضغط والعنف. صارت توبخه وتتهمه علانية أمام زملائه أنه بطيء في عمله. وكان الكل يعلم أن ما تقوله كذب، إذ يشهدون له بنشاطه في العمل، وأنه يمارس عملاً يحتاج للقيام به ثلاثة أشخاص. لم يعرف زملاؤه سرّ تحوّلها ضدّه، إذ كانوا يعتقدون أنها كانت تلتصق به لأجل اهتمامه بعمله ونشاطه وقدرته. قال لها: "إن كنتُ بطيئًا في عملي، فأنا أقوم بدور ثلاثة أشخاص، ومحتاج إلى شخصٍ يعمل معي". أجابت في غضب شديد وبلهجة عنيفة: "إمّا أن تُسرع في عملك أو تستقيل". هنا شعر كأن صوت اللَّه يحدّثه خلالها. في الحال وبغير تردد قال لها أمام الحاضرين: "الآن أنا مستقيل". ألقى بما في يده وانطلق ليخرج، فأدركت أنه جادٌ في قراره. حاولت أن تثنيه عن عزمه هي ومن معها. صارت تلاطفه لعلّه يعدل عن قراره، لكنه أصرَّ وخرج، ليس من أجل كرامته، وإنما لأجل أبديته. لم يمض أسبوع حتى وجد عملاً لم يكن يظن أن يحصل عليه، ولا وجه للمقارنة بينه وبين عمله الأول، من جهة نوع العمل والدخل. لقد شعر أن يدّ اللَّه قد كافأته لأنه اهتم بخلاص نفسه وهو في بلدٍ غريبٍ وتحت ظروفٍ قاسيةٍ، وعلى حساب احتياجاته الضرورية.
2008-07-11
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق