لم يكن ما أفعله في تلك القرية هو آمالي وطموحاتي, ولكني لم أجد بدا من إقامة تلك المدرسة في تلك البقعة النائية من أرض أفريقيا, ولم أكن أتوقع النجاح كثيرا لما أفعله ولكنها كانت خطوة في طريق رؤيتي تجاه تلك القرية التي كان حظها من المدنية منعدم تقريبا.منذ عدة أعوام جئت إلى أفريقيا من موطني الأصلي إنجلترا وأنا أحاول أن أقدم محبة المسيح بعدة طرق ولكني كنت دائما أحصد الفشل, في البداية كانت اللغة حائلا من أن يفهمني هؤلاء البسطاء, فبقيت وسطهم أتعلم لغتهم حتى استطعنا أن نتواصل من حيث اللغة بعد وقت وجهد ليس بالقليل.. ولكني اكتشفت أن اللغة لم تكن هي الحائل الوحيد بيننا, فهناك حاجز كبير بيني وبينهم.. كان لديهم كثير من المراسيم الوثنية التي فيها يرقصون حول طوطم القرية طوال الليل حتى ينهكون ويطلبون من ساحرهم أن يصلي إلى الطوطم الذي هو في الواقع اله القرية, ويقدمون مع طلباتهم هداياهم السخية إلى التمثال والتي يحصل عليها الساحر والراقصون معه بالطبع . كانت ديانتهم مجهولة على, فالطوطم هذا لم يكن هو إلههم بل الممثل لذلك الإله وبالتأكيد الله لم يكن هو ألههم , ولكن إذا قلت لهم لنعبد الله لقالوا أننا فعلا نعبده , فمن هو الله؟! أليس هو خالق السماوات والأرض ومدبر كل الاحتياجات لنا ولأولادنا ؟!. ان اله بهذه الصفات هو الذي نعبده بل وصنعنا له هذا الطوطم حتى نستطيع أن نراه ويرانا ونقدم له فروض الولاء والعبادة . والطقوس التي يعبرون بها عن محبتهم لذلك الإله كانت غريبة ولم أستطع أبدا زحزحتهم عنها , وكان الطوطم في منتصف القرية تماما وبجانبه كوخ الساحر الذي ما أن يلبس قناعه ويبدأ في رقصه بعد أن يبدأ مساعده في الدق على الطبلة الضخمة حتى تبدأ مجموعة من أعوانه في الرقص حول الطوطم وسرعان ما نجد رجال القرية ونساؤها انضموا إلى الركب. وفي الواقع كانت احتياجاتهم التي يطلبونها ويقدمونها إلى الطوطم بسيطة, فمرة يصلون لأجل موسم الأمطار ولم يكن الله يبخل عليهم فطوال وجودي معهم تأتي الأمطار في ميعادها كل عام ولم يتعرضوا للجفاف أبدا , أيضا كانوا يصلون لأجل الحماية من وحوش الغابة , وأيضا لا أذكر إلا حالات بسيطة من الاعتداءات التي فيها اعتدى بعض الحيوانات المفترسة على القبيلة, غير ذلك كان أقصى اعتداء هو اعتداء الثعالب على دجاج أهل القرية. كانوا يصلون لأجل مزروعاتهم البسيطة وزوجاتهم وكانت الأمور تسير بهدوء ويسر , فلا معاناة ولا ضيق. وكنت بالنسبة لهم الرجل الأجنبي ممثل الاستعمار الذي يكرهونه جدا, فكيف يسمعون ويصدقون مني عن اله يحبهم ويموت لأجل خطاياهم.حينئذ فكرت بالمدرسة, قلت لنفسي أنه ربما اجتذبت المدرسة بعض الأطفال الذين يمكن أن أبدأ بهم نواة الكنيسة الصغيرة.ويبدوا أن فكرة المدرسة ضايقت ساحرهم جدا, إذ أنه كان يتجاهل وجودي تمتما في البداية , وعندما بدأت في بناء كوخي الضخم استعدادا للمدرسة جاء إلى وسألني . - ماذا تفعل؟ - كوخ كبير.- لماذا؟ , هل ضاق بك كوخك؟ - لا, بل أنني أرغب في بناء مدرسة لأولادكم. - ومن قال لك أننا نريد أن نعلم أولادنا من غربي - أني لن أجبر أحدا, ولكني سأعلن أن في هذا المكان مدرسة لمن يرغب في تعليم أولاده . فصرخ في غضب- اللعنة عليك أيها الغربي, نحن لا نريد مدرستك ولا تعاليمك الفاسدة, ولن يدخل هذه المدرسة أحد من أولادناوأخذ يسب ويلعن فعرفت أن الصراع سيكون بيني وبين هذا الرجل على أشده, ولكني لأم أنهزم فأخذت أسعى لإكمال البناء بينما أخذ الساحر يدق الطبول كي يجمع القرية من حوله يحذرهم من ذلك البناء. . ***والآن ها قد تم البناء، والبناء دون دارسين لا معنى له، فقمت بدوري لزيارة أهل القرية بيت… بيت، وأشرح فكرة المدرسة وأنا أعد نفسي لحرب قاسية، ولكن لا أستطيع أن أقول أني انهزمت إذ استطعت أن أجمع بضعة أولاد قلائل وشرعت في تعليمهم القراءة والكتابة. مما أثار حنق الساحر على الرغم من قلة الأولاد.***والساحر هو العمود الفقري لتلك القرية التي لم تنل من المدنية ولا حتى الشيء اليسير, فهي بدون كهرباء, ولا أي أجهزة أخرى, بل كل شئ على ما كانت عليه منذ ثلاث آلاف سنة .. فإذا كانت هناك سيدة عاقر ذهبت إلى الساحر بالهدايا المطلوبة فيصلي ويرقص أمام الطوطم ويعطيها من الأعشاب الطبية بعض الأشياء التي كثيراً ما تكون ذا منفعة. وإذا أراد رجل أن يتزوج أو يشتري بقرة فيذهب إلى الساحر الذي هو الملجأ ورجل المشورة ورجل القانون ومنفذ الأحكام .. كان الساحر كل شئ وعلى دراية بأي شئ.. ويبدوا أن الساحر فهم أنني أتيت لأنزع عنه هذا الصولجان فكرهني من أول تعامل على الرغم من أنني سلكت بالحكمة فلم أبشر بمسيحي بأسلوب مباشر بل أنني أعتقد أنني لم أتفوه باسم المسيح طوال سنتين كنت خلالها أراقب الناس وأتعلم العادات التي لدى أهل القرية وأعرف احتياجاتهم. ومع ذلك لم أفهم الكثير ولكني عرفت لغتهم ويبدوا أن الساحر بدوره كان ينظر إلي ويراقبني. كان يريد أن يعرف هوية ذلك الأجنبي وماذا يريد في البلدة. عندما جئت إلى القرية كنت قد جئت كراع لمجموعة من المهندسين والعمل الذين يبحثون عن البترول على الساحل النيجيري القريب من تلك القرية .. مكث هذا الفوج بضعة أعوام كنت أمارس مهنتي خلالها ثم أتجول بعد هذا في القرى المحيطة..أحيانا بدافع حب الاستطلاع وأحيانا أخرى محاولا أن أفهمهم وعندما بدأت اختلط بالناس بصورة جدية وضع الرب في قلبي محبة لهؤلاء الناس وإشفاقًاً على جهلهم ومن ثم بدأت محاولة الخدمة داخل هذه القرية القريبة من عملي الأساسي، لذلك لم أرحل مع الراحلين من الفوج ولكني بنيت كوخ لنفس وسكنت كضيف بالقرب من حدود القرية. في البداية كنت ضيف غير مرغوب فيه، وبعد فترة من الوقت تحولت إلى ضيف اعتادوا وجوده. كنت ضيف عديم الهوية فهم يعرفون معنى مهندس ومعنى الطبيب. ولكن لا أنا مهندس ولا طبيب، وإذا قلت لهم أني مرسل فسيطردونني حتما سواء فهموا معنى الكلمة أم لا. وإذا طردت فلن أستطيع تبشيرهم وتوصيل رسالتي لهم. وأخذت أتأمل في احتياجاتهم التي من خلالها أستطيع أن أحدد هويتي حتى وصلت في النهاية إلى فكرة بناء المدرسة لأصير بالنسبة لهم معلماً.. وبعد مرور ستة أشهر من بدء العمل بالمدرسة جاءني ولد وقال - تقول أن الله هو خالقنا- بالتأكيد - وتقول أنني عندما أصلي له يسمعني- نعم - أنا أم ساحر القرية- ماذا تقصد ؟- هل أذهب أنا إلى الله أم أدع الساحر يذهب ليصلي نيابة عني - بل أنت.. الله يحبك أنت ويريد أن يسمعك أنت، وهو يود لو تأتي أنت إليه.- ولكني لا أعرف كيف أقدم التسابيح لله.. لا أعرف طريقة الرقص أو طريقة قرع الطبول فلم أكن في يوم من الأيام أحد معاوني الساحر من قبل.. والساحر هو الذي يوجه عملية الرقص هو وأعوانه. ابتسمت وقلت - ليس بالضرورة انك عندما تأتي إلى الرب أن تأتي إليه بدف ورقص. وبدا كل شئ أمامي صعب, وقتها عرفت أنه ينبغي أن أوجه قوى الظلمة المتمثلة في الساحر وجها لوجه.. وكفاني قعوداً. يومها لجأت إلى الله في الصلاة وسألته قائلاً" يا رب .. هل حان الوقت؟!.. وقت الصراع والتصدي للشر المتمثل في الساحر ؟ هل حان الوقت لأكشف أوراقي وأكشف محبتك وأكشف صليبك؟!وكان الرد المنبعث من داخلي "نعم اذهب.. أما أمرتك ليتشدد وليتشجع قلبك فلا ترهب ولا ترتعب لأني أنا الرب إلهك معك حيثما تذهب كنت أخاف كثيراً من هذا اليوم رغم ثقتي من أنه آت لا محالة, ولكني أيضا بدأت من خلال المدرسة. وبدأت بالهجوم المباشر قائلاً للأولاد- يا أولاد .. هذا الطوطم الذي ترقصون حوله ليس له أي فائدة والله هو إله السماوات والأرض. خالق كل شئ فينبغي أن تسجد له وتطيعه وتبعد عن الخرافات.. والله أرسل ابنه يسوع المسيح كي يربط الإنسان بالسماء. ولم أكمل كلامي.. نظر الأولاد إلى وتركوا المدرسة في صمت، وقلت في نفسي من جديد - هل أخطأت التوقيت ؟! لم أعرف ولكن بداخلي صوت مشجع يقول لي لا تخف، خرجت من المدرسة لأجد كثير من الأهالي تركوا مزارعهم في الصباح واجتمعوا في وسط القرية حيث الساحر والطوطم المقدس. الساحر خرج بقناعة السخيف يرقص وعلا صوت الطبلة مما أدى إلى اجتماع المزيد والمزيد من الأهالي. وفي هدوء اقتربت من المكان حيث كان الأهالي ينظرون إلى الساحر وينظرون إلي. وما أن اجتمع الجميع حتى صرخ الساحر بصوت عظيم.- أيها العدو الملعون.. لتلعنك الأرواح، ألهنا العظيم إله القبيلة ولإله هذا الطوطم الذي أنت احتقرته وأهنته سوف يدمر مدرستك هذا المساء. لم أصدق أننا في منتصف القرن العشرين بل ظننت أن الزمن عاد إلى الوراء أكثر من ألف عام, وأخذت طبلة مساعد الساحر تدق دقات رتيبة مخيفة وأنا أنظر إليه في دهشة لتلك الثقة التي يتكلم بها.. وفجأة تغيرت السماء التي كانت صافية وحلت على المكان عاصفة شديدة والطبلة تزيد من دقاتها, فبدأ البرق والرعد ينبئان عن خطر داهم……يبدوا أنني لم أعط هذا الساحر حقه، فهو بحق عميل لقوى الشر, ورأيت ابتسامة أهل القرية الساخرة تستقبلني وهم ينتظرون أن يروا المدرسة وهي تحترق. ثم بدأ الساحر يرقص حول الطوطم وأعوانه انضموا إليه وكذلك أهل القرية مترنمين بكلمات لم افهمها. ورجعت إلى المدرسة التي تنبأ الساحر بدمارها ومددت يدي لأحمل الكتاب المقدس وأنا أشعر بالهزيمة.. ولكن رن في داخلي صوت يقول " أنا أنا هو الله وليس آخر " وتخيلت أبليا الذي تحدى قوات الشر وانتصر.. بسرعة تكلم الله في داخلي وذكرني بوعود ووعود كثيرة, لقد سبق أن انتصر الله في معركة حاسمة هي معركة الصليب فكيف أنهزم أنا؟.. خرجت وأنا أحمل الكتاب المقدس لأعلى واقتربت من مجتمع الراقصين وصرخت وسط المطر- استمع أيها الساحرولكن ضاعت كلماتي وسط الرقصات وصرخات الطبول، فاتجهت إلى الطبلة وحاملها بقدمي زحت الطبلة عن موقعها بين ساقي الرجل الذي يدقها فتوقف عن الدق في دهشة وبالتالي توقف الرقص لينظر الجميع إلي في دهشة وغضب.. وقبل أن يتحول الغضب إلى فعل غاضب بصوت جهوري قلت موجهاً كلامي للساحر- الإله الذي أعبده هو الذي سيضرب طوطمك بالبرق تلك الليلة. لتستمر الأمطار وليستمر البرق, ولكن على رأسك أنت أيها الشريرفخلع الساحر قناعه بعصبية وقال- لنر أيها الأجنبي.. مدرستك ستنهار وسأحرقك بيدي أمام الجميع إن لم ترحل من بعدها ولن أبالي بدولتك التي تحتمي بها..- حاميني هو الرب إله السماء والأرض والمطر والسحاب والبرق.. وحسناً تقول.. إذا كان طوطمك هو الرب فاعبدوه..وتحولت عنه ورجعت إلى المدرسة. ولكني لم أصل إلى المدرسة فلقد اشتدت الرياح كثيرا وصاعقة أضاءت المكان من حولي, وشعرت بنار تضئ من خلفي, ونظرت ورأيت الطوطم الذي يعبدونه وقد صار كتلة من اللهب وسط صرخات الناس المذعورة وهي تهرب من جانب هذا الوثن. ***ومثلما بدأ الصراع سريعا انتهى سريعا أيضا. وبدأت في القرية خدمة مباركة وتحولت المدرسة إلي كنيسة كبيرة. إن قوى الشيطان تنهزم حين نسير مع الله. لا ينبغي أن نخاف البتة فإبليس وقواته لا يمكن أن يجاروا الله أو يباروه.