بحث مخصص

2008-08-02

الكلية الشافية


ظلت تحدّق إلى سقف الحجرة المستلقية فيها في المستشفى وهي غارقة في تفكير عميق تعاني من خواطر رهيبة كانت تعصف برأسها وتحملها إلى الماضي البعيد، إلى سنين طوتها يد الزمن، وكفنتها بدياثير كثيفة في محاولة منها للنسيان، ولكن أنّى لها أن تنسى وهذه الذكريات التي تراودها ما برحت محفورة في ذهنها بإزميل حاد تُطلُّ عليها بين آونة وأخرى صارخة في وجهها: لماذا فعلت هذا؟ لماذا تخلّيت عن ابنك؟ أين قلب الأم النابض في صدرك؟ وأخذت هذه الخواطر تهاجمها بوحشية وكأنها تنانين رابضة في أعماقها تسعى للانقضاض عليها. وأقبلت الممرضة المناوبة لتعطيها بعض الأدوية، فبذلت "رئيفة" جهداً كبيراً كي تواري ما يدور برأسها من أفكار، ورسمت على شفتيها شبه ابتسامة باهتة من غير أن تنطق بكلمة. وبعد أن تناولت الدواء، وتطلعت إلى الممرضة تساءلت بصوت خافت: - كيف... كيف المريض؟ فأجابتها بنبرة مطمئنة: - إنه في تحسّن مستمرّ وقد يخرج من المستشفى بعد يومين أو ثلاثة. شيء ما اختلج في صدر "رئيفة". إنها تدرك أن عالماً جديداً ينتظر هذا المريض، عالماً يرتع فيه بالصحة والعافية، ولكن... وسمعت الممرضة تقول: - لقد وهبتِ له حياة جديدة عندما تطوّعتِ بالتضحية بإحدى كليتيك. شعرت "رئيفة" بالكلمات تكاد تتدفّق على شفتيها كنهر جارف، غير أنها شدّت على ناجذيها، وعضّت على شفتيها معتصمة بالصمت. وتابعت الممرضة كلامها: - أنتِ الوحيدة من بين أربعين شخصاً التي صلحت كليتها للزرع ولإنقاذ حياة هذا الشاب. هل كنت تعرفينه من قبل؟ أشاحت "رئيفة" برأسها وتطلّعت إلى السماء الزرقاء البعيدة من خلال النافذة المفتوحة على حديقة المستشفى، وبعد صمت مثقل أجابت: - رأيته مرة واحدة منذ زمن بعيد... ثم أسرعت تقول: - إنني متعبة قليلاً، دعيني أن أنام. عندما غادرت الممرضة الحجرة، هيمن على "رئيفة" إحساس مبهم من القلق والخوف لا تدري له مصدراً. أحسّت وكأن قوى خفية شرعت تستيقظ من عالم الماضي وتنتصب أمامها وكأنها تمنعها من القيام بأية حركة. إنها تريد منها أن ترجع القهقرى إلى الماضي، إلى ما قبل ثلاث وعشرين سنة، عندما كانت في شرخ الصبا، لم يتجاوز عمرها السابعة عشرة. آنئذ كانت تضجّ بالحياة، والرغبات، تحدوها الآمال الكبار، وتستأثر بها الأحلام، إلا أنها انزلقت فجأة في هوّة العبث بتأثير الحياة الاجتماعية المنحرفة التي اجتذبتها، وما لبثت أن وجدت نفسها حاملاً عن غير قصد منها. لشد ما أرعبها هذا الواقع؛ انقلبت حياتها رأساً على عقب؛ استولى عليها الخوف من حكم المجتمع عليها، ومن غضب أسرتها، ونظرة زميلاتها إليها. وعندما أسرّت بسرّها لوالد الجنين نظر إليها بغضب وقال لها: - من أدراكِ أنني أبوه؟ فأجابته برعب: - لم تكن لي علاقة مع أحد سواك! فقال بقسوة: - من يدريني أنك لست كاذبة؟ ثم استدار ومضى في طريقه. ومنذ ذلك الحين لم تلتقِ به إذ اختفى كلياً من حياتها. ولم يمضِ أسبوعان حتى وجدت نفسها على قارعة الطريق. لقد قررت في نفسها أن تهرب من بيت أهلها قبل أن يُفتضح أمرها، فحملت ما يخصها من ثياب، وهربت من المنزل في ليلة كان ذووها في زيارة لبعض الأقرباء، وأخذت تنتقل من مكان إلى آخر، ومن عمل إلى عمل؛ وفي كل مرة كانت تخرج إلى الطريق يخالجها الخوف أن يراها أحد من إخوتها أو يلتقي بها من يعرفها. وهمّت أكثر من مرة أن تجهض هذا الجنين وتتخلّص من هذا الحمل الذي يثقلها بالعار، ولكن صوتاً في داخلها كان يحول دون إقدامها على هذه الجناية. وأخيراً أشارت عليها إحدى رفيقاتها اللواتي تعرّفت عليهنّ في أثناء تجوالها في الطرقات أن تعرض جنينها للتبنّي. في بادئ الأمر لم ترق لها هذه الفكرة، وشعرت بشيء من تأنيب الضمير؛ حاولت أن تقنع نفسها أنها قادرة على العناية بهذا الجنين عندما يولد، وأنها لا بدّ أن تستقرّ في منزل صغير توفّر لطفلها كل أسباب العيش الكريم، بيد أن قسوة الحياة، والظروف الأليمة التي كانت تمرّ بها أقنعتها أنه خير لها أن تجد من يتبنّى هذا الجنين، فذلك أفضل ما يمكن أن تفعله لتؤمِّن له حياة سعيدة. واستطاعت أن تتصل بمؤسسة خيرية تهتمّ بالعناية بالأطفال وتسعى أن تجد لهم أسراً يتبنّونهم. واستطاعت بعد زيارة المؤسسة والاطلاع على شروطها أن توقّع على الأوراق الرسمية. وعندما وُلد طفلها في أوائل الربيع تفرّست بمحيّاه بلهفة تعجز عن وصفها، فقد تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تشاهده فيها. إنها لا تريد أن تنسى ملامحه ولا صرخات صوته الأولى التي انطلقت من حنجرته. طرأ ببالها أن تحمله وتنهض من السرير وتهرب به إلى أقاصي الأرض، ولكن... وفي صباح اليوم التالي اختفى الطفل من حياتها. فقد جاءت الأسرة التي تبنّته وأخذته إلى منزلها. استبدّ "برئيفة" شعور مفزع من الوحدة والغربة. لقد فقدت جزءاً منها رافقها نحو تسعة أشهر من حياتها. نعم، لقد حملته على مضض، ولكنه هو من لحمها ودمها، ابنها الذي من أجله قاست الأمرّين! وتقلّبت صفحات ذكرياتها وهي تطالع بخيالها سيرة حياتها وتوقّفت عند اللحظة التي اكتشفت فيها أين يسكن ابنها ومن هما والداه الجديدان. كان ذلك بعد سبع سنوات من مولده، ومنذ ذلك الوقت كانت تمرّ من أمام منزله كل يوم تقريباً. كانت تريد أن تراه وهو في طريقه إلى المدرسة، أو في أثناء عودته منها، أو وهو يلعب في حديقة المنزل. لشدّ ما همّت أن تنطلق إليه، وتعانقه وتشدّه إلى صدرها وتقبّله وتقول له: أنا أمك الحقيقية، تعال إليّ... تعال! ولكنها أدركت أنها بذلك تدمّر حياته، فكانت تتمالك نفسها وتتراجع ثم تمضي في سبيلها. وفي ذات يوم دعتها صديقة لها لحضور اجتماع ديني في كنيستها، وهناك اكتشفت محبة المسيح التي جعلته يبذل نفسه من أجل خلاص الإنسان. رأت نفسها في المرأة الزانية التي حررها المسيح من ماضيها فأصبحت ابنة لله. فتاقت نفسها أن تكون مثل تلك المرأة تجثو عند قدمي الفادي معترفة بخطاياها. في تلك الليلة فتح المسيح ذراعيه قائلاً لها: "تعالي إليّ فأنت الآن ابنة لي". لم تكن "رئيفة" تعلم أن ابنها كان مصاباً بداء في كليتيه، وأن حياته كانت في خطر. وعندما قرأت عنه في الصحف وأنه موجود في المستشفى في انتظار من يتبرّع بكلية له من ذويه أو أي مصدر آخر، أسرعت إلى المستشفى وتبرّعت بكليتها. لم يكن أحد يدري أنها أمه، ولكم كانت دهشة الطبيب الأخصائي عندما وجد أن كليتها هي الكلية الوحيدة التي يمكن زرعها من غير حدوث مضاعفات؛ وعندما جاء والده المتبنّي يسألها: - كيف يمكنني أن أكافئك على إحسانك لنا؟ تطلّعت إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وقالت: - لا شيء يا سيدي، إن كل ما فعلته لا يضاهي شيئاً مما فعله المسيح من أجلي. تطلّع إليها الوالد بدهشة وغمغم: - ماذا تقصدين؟ - لقد بذل المسيح نفسه من أجلي وخلّصني من الهلاك الأبدي. أما أنا فلم أقم بشيء لا يستطيع أي شخص آخر أن يفعله من أجل... وتوقّفت عن الكلام. وعندما شاهدت التساؤل على وجهه قالت هامسة: - قل لابنك إن كليتي فانية وإن كانت صالحة إلى حين، أما موت المسيح على الصليب فهو مصدر الحياة الأبدية

ليست هناك تعليقات:

 

website traffic counters
Dell Computers