بحث مخصص

2008-01-23

حدث بالفعل


أصر الهاتف اللعين على إيقاظي من نومي، ومهما كنت أمعن في تجاهله، فإن رنينه لا يلبث أن يتصل من جديد، ويمتد، في سيمفونة مزعجة وطويلة، أجبرتني في النهاية على الاستيقاظ، ومد يدي للإمساك بسماعته:ـ"أيوه.. ألو.. مين ؟"وكان آخر صوت أتوقع سماعه في هذا الوقت المبكر، صوت صديقي"سامح "، فهو وطواط آدمي بحق، ينام طوال النهار، ويستيقظ طوال الليل، وكنت أتعجب مما دفعه إلى تغيير عاداته المقدسة، ولكن قطع دهشتي صوته الطفولي الذي جاءني منفعلاً ومتحمساً:ـ"أنت لسه نايم ليه؟.. قوم يا ابني.. صحصح بقى"ـ"اشمعنى؟"ـ"فُرجت يا واد.. فُرجت.. وهنشتغل ونهيص"وما إن سمعت كلمة الشغل، حتى دبت دماء جديدة ونشطة في شراييني، واعتدلتُ في مكاني وأنا أعتصر السماعة في يدي: ـ"بجد يا سموحة.. أنت لقيت لنا شغل؟"ـ"أيوه طبعاً.. البس بسرعة وتعال على القهوة"وارتديت ثيابي على عجل، وأسرعت أقابله في المقهى، وما أن رأيته حتى أخذته بالأحضان، وأجلسته أمامي، وأنا لا أرفع بصري من عليه:ـ"هه.. خير بقى يا سيدي؟.. شغلانة إيه؟"ـ"بص يا سيدي.. أنا لقيت لنا شغلانة لوز.. لوز يا ابني.. ومضمونة تمام"ـ"شغلانة إيه.. هه.. قول بقى"فاقترب مني، ومال ناحيتي إلى أقصى ما تسمح به قوانين الطبيعة، ثم قال كلمة واحدة وكأن فيها الشفاء العاجل من كل أمراض الفضول والترقب والانتظار:ـ"الشباشب الحريمي!"فاعتدلت في مجلسي، وأنا لم أفهم، ثم صحت فيه بغضب:ـ"بقولك إيه.. أنا مش ناقصك، يا تتكلم مرة واحدة يا أقوم أروح أكمل نومي!"فهدأ من روعي وعاد يشرح:ـ"بص يا عم، الصيف جه، والإجازة بدأت، احنا بقى نشتري شوية شباشب حريمي كده، على ذوقك، ونطير على "جمصه" ونفرش بعربية محندقة، هنأجرها طول موسم الصيف، ونبيع حتتين البضاعة، ونعيش، إيه رأيك بقى في الفكرة دي؟"وعدت أنظر إليه من جديد، وأنا أسرح ببصري لأيام الجامعة، والمحاضرات، والكتب، والامتحانات، وأحلام المستقبل الذهبية، والطريق الذي كنا نعتقد أنه مفروش بالورد، فاتضح أنه غير موجود أصلاً!كان ينتظر ردي بشوق، ولم يكن لدي خطط أخرى، فوافقته على مضض!وبدأت الإعدادت والتجهيزات، والمفاوضات ومناقشات في منزلنا حول جدوى الموضوع، وطريقة جدولة المبلغ الذي سأقترضه ـ طبعاً ـ من والدي، فأنا على فيض الكريم، وأكثر من مشوار لبائعي الأحذية الحريمي في الموسكي، وفصال، وموديلات، وشجار، ومشاحنات، ولغة راقية جداً للحوار، تتضمن استخداماً لم أتصوره أو أتوقعه لحروف اللغة العربية العزيزة، والسفر أكثر من مرة إلى "جمصة" لحجز عشة للبيات ـ وهي عشة فعلاًُ ! ـ وتأجير عربة خشبية، واختيار موقع ليكون قاعدة انطلاقنا نحو الشهرة والمجد!أيام طويلة، مرت علينا، لم نكن ننام فيها إلا لماماً، قبل أن نحظى بأولى لحظات الاستقرار والهدوء النسبي!ولكننا في النهاية، كنا في موقعنا المختار، وأمامنا بضائعنا المزجاة، وزبائننا المنتظَرون، يروحون ويغدون، ونحن نفرك أيدينا شوقاً، في انتظار أول زبون.وجاء ـ أو جاءت ـ أول زبونة، سيدة في حوالي الخمسين وربما الستين من العمر، راحت تقلب في البضاعة، من فوق لتحت، ومن تحت لفوق، ولا تجد ما يرضي ذوقها، وأثناء ذلك، ترمقنا من تحت حاجبيها المزججين، وترمي لنا بابتسامتها اللزجة، الغارقة في أطنان من مساحيق التجميل الرخيصة، حتى تدخّل زميلي بابتسامة دبلوماسية وهو يقول: ـ"مكن نساعد حضرتك يا أمي"؟وكأن القيامة قامت فجأة، إذ أصوات مدوية حاصرتنا، ونافورة شتائم انفتحت وأغرقتنا، وأيدي تمتد، وثياب تتمزق، والمرأة العجوز تمسكني وصاحبي من ـ إحم ـ أقفيتنا، وتنادي الجميع ليشهدوا هذه المهزلـ"أمك.. .. إيه قلة الأدب دي.. أنت أعمى.. أنت ضرير أنت مبتشوفش.. ده أنا قد أختك الصغيرة.. تقوم تقولي أمك.. جتك نيلة.. أمال بيقولوا شباب روش ازاي.. قطيعة..!!وتركتنا أخيراً، بعد تحايل أمة لا إله إلا الله عليها، و"معلش" و"ماكنش قصده" و.. و..، وبعد أن تفرج علينا كل البشر، وأصبحت سيرتنا على كل لسان!وكان أول من تكلم بعد هذا الزلزال، صديقي:ـ"كح كح.. الله يخرب بيتها.. هو فيه إيه.. أنا عملت إيه؟"ـ"يعني كان لازم تنسحب من لسانك.. ما كنت تقولها يا آنسة.. ولا يا ست الكل.. ولا أي حاجة من اللي بيقولوها في المواقف دي!"ـ"وأنا كنت أعرف منين يعني إنها هتعمل كده؟"واسترددنا أنفاسنا، بعد فترة، وعدنا لممارسة العمل.جاءت فتاة شابة، بعد قليل، تتفرج هي الأخرى، وتقلب في بضاعتنا، حتى اختارت أحد الشباشب، وسألتني عن ثمنه، ولما أجبتها، شهقت كأن هناك من ينتزع روحها، بسكين باردة، أو يضع دبوساً محمياً في بؤبؤ عينيها، وصاحت بأعلى الصوت: ـ"لا طبـعاً.. إيـه ده.. أنتوا فاكرين نفسكم في أمريكا.؟. هم اتنين جنيه مفيش غيرهم"ـ"يا أبله مينفعش.. كده ما يجبش تمنه؟"ـ"مش شغلي.. أنتوا فاكريني إيه.. صيدة.. هتضحكوا عليها"فتدخل زميلي، وقد بدأ يحتد، من اللهجة التي تخاطبنا بها:ـ"بصي يا أبله.. بضاعتنا كده.. يا تاخديها بالسعر اللي بنقول عليه.. يا تسيبيها"ـ"نعم.. أنت هتستهبل.. طب وحياتك لهخدها.. ومن غير فلوس كمان !"ثم انثنت للخلف، ورفعت صوتها، ونادت:ـ"يا ماما.. يا ماما"وجاءت ماما، وياليتها لم تجئ، جسد هائل، يبدو من الصعب تصور استقراره على الأرض، دون أعمدة أسمنتية، وأساس تحت الأرض، وملامح جامدة، موروثة حتماً من أجدادنا الديناصورات، وصوت لا يمكنك تفريقه، عن صافرة قطار البضاعة المتعجل دائماً، بلا مبرر، وما أن اقتربنا من مجالها الجوي، حتى ارتمت الفتاة في أحضانها، وبدت كعصفور بين يدي مفاعل نووي، وصاحت:ـ"دول بيعاكسوني يا ماما"والمفروض أن "دول" طبعاً أنا وصاحبي!ولم تكذب "ماما" خبراً، إذ بيد كانت تطيح بنا معاً بالضربة القاضية ـ رغم أنها كان يمكن أن تؤدي نفس المهمة لو تنفست في وجوهنا فحسب ـ وباليد الثانية تقلب العربة بما فيها، ثم تتحفنا بوصلة عزف منفرد على آلة اللسان المبرود!!وعاد الشاطئء كله للتفرج علينا من جديد!وطبعاً، حصلت الفتاة على "شبشبها" دون مقابل، كنوع من التأديب لنا، ورد اعتبارها وكرامتها المجروحة!وعدنا نلملم كرامتنا ـ التي أصبحت ذكرى ـ ونعيد ترتيب حاجياتنا على العربة بصعوبة.ولم نكن قد أكملنا التقاط أنفاسنا بعد، عندما سمعنا صوت سارينة الشرطة، والباعة الجائلون يجرون بسرعة البرق، وعساكر، وأمن، ودنيا صاخبة، ووجدت صديقي يمد يديه، ويأخذ ما طالته من الشباشب، ويأمرني أن أفعل مثله، ففعلت، ثم وجدته يشدني من يدي، ونسلم ساقينا للرياح:ـ"فيه ايه.. إحنا بنجري ليه؟"ـ"شرطة المرافق يا ابني.. اجرِ.. انفد بعمرك"ـ"وباقي البضاعة؟"ـ"يا روح ما بعدك روح"واستمر عدونا، والشرطة تقبض على من تطوله، والصراخ يرتفع من حولنا، حتى هربنا اخيراً، وارتمينا على الشاطئ، نتحايل على الأكسجين أن يرحمنا، ويزور رئاتنا التي كادت تتمزق من هذا المجهود الخرافي:ومن بين الأنفاس المتقطعة، كنت أسأل صديقي في غل: ـ"مقولتليش ليه على شرطة المرافق دي قبل كده؟"ـ"نسيت"ـ"وهي بتعمل كده ليه؟"ـ"عشان ممعناش تصريح.. لو كنا طلعنا واحد..كان اتخرب بيتنا!" ـ"طب والعمل إيه دلوقتي؟"ـ"عوضك على الله بقى.. "لم يكن قد تبقى معي، غير فردة شبشب واحدة، كان هذا أسعد ما حدث لي في يومي هذا، وربما منذ بدأتُ هذه المغامرة المكلفة، مع صاحبي الأحمق، تسألني لماذا؟، لأني أمسكت بها، واستلمت رأس صاحبي، وبدأت أعبر له عن مدى امتناني وشكري وسعادتي بفكرته الغالية، وهو لا يجد وسيلة للتعبير عن امتنانه هو الآخر سوى الصراخ بأعلى صوته، ومحاولة الإفلات من ضربات "القَدَر" !
بالذمة مش دا هم يضحك ؟؟

ليست هناك تعليقات:

 

website traffic counters
Dell Computers