كنتُ بالأمس البعيد حبّةً صغيرةً من الحنطة مطمورة في قلب الأرض، لا غِذاء ولا شراب ولا نور ولا هواء، حتى شعرتُ يوماً بقطرةٍ من الماء تُلامس جسدي، فانتعشتُ وشَقَقْتُ قشرتي بعزم لُبابي، ومَدَدْتُ عُنقي من ظلمةِ التراب، فإذا بي نبتة صغيرة خضراء تتمايل أمام النسيم وتفرح بنور الشمس.
ومرّ النسيمُ يداعب قامتي بأنامله الناعمة، وانحنَتْ عليّ الشمسُ تقبّلني بأشعتها الدافئة، وانعطفت الأرض تغذيني بترابها ومائها، فاستطالت قامتي وقويت ساقي، وإذا برأسي متوج بسنبلة ممتلئة بالحبوب. فتذكرتُ عندئذ عهدَ ظلمتي الأول أيام كنتُ هاجعةً تحت التراب؛ وعرفتُ أن الظلام يمشي بنا إلى النور، وأن الهُجوعَ يدفعنا إلى اليقظة، وأن الموت ليس إلا مقدِّمة للحياة. عرفت بأن الأيام تبقى فارغة وعقيمة حتى تقترن بالجهاد والتضحية، وأن من يضحي بالواحد يربح المئة، ومن يَضِنّ بالواحد يخسر الواحد والمئة معا.
وكانت الشمسُ تزداد شغفاً بي، وكانت قُبُلها الحارة تُلوِّح بشرتي، وتزيدني اسمراراً، حتى جاء شهر الحصاد. فإذا بالحصّاد مقبِل وبيده المنجل؛ فطار قلبي هلعاً ودبت الرجفةُ في أعضائي وتلاشت قواي. مرّت أمامي ذِكرياتُ الماضي بما فيها من مَشاهِد ورسوم، فانقبض قلبي، وأظلمت نفسي، واغرورقت عيناي بالدموع، وقلت: ليتني متُّ مُختنِقة في ظلمة التراب، ولا تمتعتُ بحياة لا تكاد تبتدئ حتى تنتهي! ليتني طويتُ عنقي وبقيتُ هاجعة في أحشاء الأرض، ولا أطللتُ على وجود ما كدتُ أنعم بجماله لحظة حتى جاء الفناءُ يفصلني عنه!...
ألا ليت هذا الحصّادَ يعرض عني!.. تُرى، أيّة فائدة يرجو من حِصادي؟.. أو آه، أوآ...
وهَويتُ تحت ضربةِ المنجل فبقيَ الحرفُ الأخير في حلقي ليذكرني بحماقتي التي كنتُ أحْسبُها حكمةً، وجهلي الذي كنتُ أخاله معرفةً، وتعاستي التي كنتُ أتوهمها سعادة. نعم الآن قد عرفت غاية الحصّاد من حِصادي. الآن عرفت أنني لو بقيت في الحقل؛ لما لبثت طويلاً حتى صرتُ إلى الذُبول فالفساد فالفناء.
أما بالحَصاد فقد تأهَّبت للمراحل الثلاث التي صرت بها رغيفاً: فلولا الحصّاد لما نقّاني الدارسُ من حَسَكي، ولولا الدارس لما عرّاني الطحّان من قشرتي، ولولا الطحان لما أعدَّني الفرّان خبزاً. وهل من غاية لي غير ذلك؟ أن أصير خبزا لمجاعة الإِنسان؟ وها قد بلغت الآن غايتي فصِرت رغيفاً بين يديك، فما أسعدني الآن!”.
وكنتُ مُنصِتاً إلى الرغيف بدهشة وذهول، مفكراً في حكايته وما وراءها من المعاني والرموز، حتى انتهى من الكلام فقلت له: ما أشبهني بك أية الرغيف! وما أشبه الحقل الذي أعدك غذاء لي بالحياة التي تَعِدُّني غذاء “للآلهة”! الفرق الوحيد بيننا هو أنك قطعت مرحلة الجهاد فبلغتَ الكمال، أما أنا فمازلتُ في حقل جهادي نبتة صغيرة تتلاعب بها العواصف، وتحيق بها الأخطار.
ومرّ النسيمُ يداعب قامتي بأنامله الناعمة، وانحنَتْ عليّ الشمسُ تقبّلني بأشعتها الدافئة، وانعطفت الأرض تغذيني بترابها ومائها، فاستطالت قامتي وقويت ساقي، وإذا برأسي متوج بسنبلة ممتلئة بالحبوب. فتذكرتُ عندئذ عهدَ ظلمتي الأول أيام كنتُ هاجعةً تحت التراب؛ وعرفتُ أن الظلام يمشي بنا إلى النور، وأن الهُجوعَ يدفعنا إلى اليقظة، وأن الموت ليس إلا مقدِّمة للحياة. عرفت بأن الأيام تبقى فارغة وعقيمة حتى تقترن بالجهاد والتضحية، وأن من يضحي بالواحد يربح المئة، ومن يَضِنّ بالواحد يخسر الواحد والمئة معا.
وكانت الشمسُ تزداد شغفاً بي، وكانت قُبُلها الحارة تُلوِّح بشرتي، وتزيدني اسمراراً، حتى جاء شهر الحصاد. فإذا بالحصّاد مقبِل وبيده المنجل؛ فطار قلبي هلعاً ودبت الرجفةُ في أعضائي وتلاشت قواي. مرّت أمامي ذِكرياتُ الماضي بما فيها من مَشاهِد ورسوم، فانقبض قلبي، وأظلمت نفسي، واغرورقت عيناي بالدموع، وقلت: ليتني متُّ مُختنِقة في ظلمة التراب، ولا تمتعتُ بحياة لا تكاد تبتدئ حتى تنتهي! ليتني طويتُ عنقي وبقيتُ هاجعة في أحشاء الأرض، ولا أطللتُ على وجود ما كدتُ أنعم بجماله لحظة حتى جاء الفناءُ يفصلني عنه!...
ألا ليت هذا الحصّادَ يعرض عني!.. تُرى، أيّة فائدة يرجو من حِصادي؟.. أو آه، أوآ...
وهَويتُ تحت ضربةِ المنجل فبقيَ الحرفُ الأخير في حلقي ليذكرني بحماقتي التي كنتُ أحْسبُها حكمةً، وجهلي الذي كنتُ أخاله معرفةً، وتعاستي التي كنتُ أتوهمها سعادة. نعم الآن قد عرفت غاية الحصّاد من حِصادي. الآن عرفت أنني لو بقيت في الحقل؛ لما لبثت طويلاً حتى صرتُ إلى الذُبول فالفساد فالفناء.
أما بالحَصاد فقد تأهَّبت للمراحل الثلاث التي صرت بها رغيفاً: فلولا الحصّاد لما نقّاني الدارسُ من حَسَكي، ولولا الدارس لما عرّاني الطحّان من قشرتي، ولولا الطحان لما أعدَّني الفرّان خبزاً. وهل من غاية لي غير ذلك؟ أن أصير خبزا لمجاعة الإِنسان؟ وها قد بلغت الآن غايتي فصِرت رغيفاً بين يديك، فما أسعدني الآن!”.
وكنتُ مُنصِتاً إلى الرغيف بدهشة وذهول، مفكراً في حكايته وما وراءها من المعاني والرموز، حتى انتهى من الكلام فقلت له: ما أشبهني بك أية الرغيف! وما أشبه الحقل الذي أعدك غذاء لي بالحياة التي تَعِدُّني غذاء “للآلهة”! الفرق الوحيد بيننا هو أنك قطعت مرحلة الجهاد فبلغتَ الكمال، أما أنا فمازلتُ في حقل جهادي نبتة صغيرة تتلاعب بها العواصف، وتحيق بها الأخطار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق