دقت أجراس الكنيسة مجلجلة بأصواتها الرنانة في مساء ليلة العيد داعية الناس للإحتفال بعيد الميلاد ، وقد لبست الكنيسة أبهى حللها فمدت الأبسطة الفخمة في صحنها الواسع، وتألقت الأنوار الجميلة في ثرياتها الغالية، وأقبل المصلون في أبهى ثيابهم وإنتشر خدم الكنيسة في فنائها وعلى أبوابها يرفعون أيديهم بالتحية عند مقدم أحد المصلين ممن تبدو عليه الوجاهة والكبرياء، أو يلوحون في وجه من تحدثه نفسه من صبية الشارع أن يقترب من المكان. ووقف على الأبواب عدد من جنود البوليس بعصيهم المعهودة.
ثم أقبل إلى الكنيسة شيخ مسن عاري القدمين يغطي جسده ثوب واحد رغم برودة الجو في تلك الليلة، وكان ثوبه عباءة مهلهلة تخرقت بعض أجزائها لطول عهدها . وما كاد الشيخ يقترب من الباب حتى انبرى له أحد الخدام في فظاظة قائلا
(إلى أين؟) ولمعت عيناي جندي البوليس وأهتزت العصا في يده وكأنه عثر على عمل بعد انتظار ممل .... فأجاب الشيخ بوداعة ( إلى الكنيسة يا بني) وكأن هدوء الشيخ قد خفف من ثورة الخادم، وامتدت يده تدفعه في رفق إلى الخارج فأطرق الشيخ ثم نظر إلى الخادم نظرة ملؤها التواضع والحسرة والتساؤل وكنت أنا داخلا وشاهدت ماكان، فقلت للخادم : دعه، لماذا تمنعه ؟ فأجاب الخادم: الليلة ليلة عيد، وسيأتي زوار أجانب وقناصل بعض الدول وممنوع دخول رجل كهذا . وقامت بيني وبين الخادم مناقشة بدأت هادئة. ثم اشتدت بعض الشئ . وتصادف دخول أحد الكهنة فاشترك في المناقشة التي انتهت بالسماح للشيخ بالدخول ، فرفع يده الى رأسه باتضاع شاكرا الكاهن على تفضله وطيبة قلبه.
توافدت جموع المصلين على الكنيسة حتى ضاقت بهم على سعتها، واتخذ الشيخ مكانه في أخر الكنيسة وجلس في اتضاع وهدوء،وابتدأت الصلاة ، وكان كبار المصلين يفدون في ساعة متأخرة، وقد تفضل بعض الأعيان وكبار الرجال وبعض الأجانب وغيرهم فحضروا جزءا من الصلاة ووضعت لهم مقاعد أمامية قريبة من الهيكل. ثم وقف الأسقف يحوطه المجد والوقار وألقى عظة بليغة مؤثرة عن الإله العجيب الذي دفعته المحبة والاتضاع الى التأنس لخلاصنا وكيف قابلته البشرية بقلوب حجرية،
لم تفسح له مكانا حتى اضطر أن يولد في مذود قذر في حظيرة للبهائم في أقسى ليالي الشتاء، وكيف أن الناس في معاملاتهم وفي علاقاتهم واختيارهم للصديق والزوجة والقائد والراعي ... يصرفون وجوههم عن الفقير ولو كان عظيم النفس ، ويرحبون بالغني ولو كانت له نفس خاوية من كل خير . ثم اختتم الأسقف عظته البليغة بقوله ، ترى لو أن رب المجد جاء الان في وسطنا . هل يجد من يقبله في بيته أم يجد أبواب قلوبنا موصدة في وجهه ؟انتهت العظة وبدأ القداس، وبعد قليل صاح الشماس بالنداء المعهود : قبلوا بعضكم بعضا بقبلة مقدسة ، وهنا لاحت مني إلتفافة نحو العجوز الواقف في نهاية الكنيسة فلم أجد من يقبله بالقبلة المعروفة ...
إذ قد وقف بجواره شاب أنيق ممن لا يعرفون الكنيسة إلا في المواسم والأعياد ، وقد انكمش تاركا فراغا بينه وبين الشيخ ، وهو يتطلع في شئ من الإشمئزاز لئلا تمس عباءته الممزقة ثوبه الأنيق ، وكأن الفقر سيقفز رغم ما بينهما من مسافة فيلوث حلته انتهت الصلاة وخرج الجميع كل يسلم على صاحبه ويطلب له أطيب تمنيات العيد ، إلا الشيخ فقد كان غريبا عن الجميع ولم يكن من يسلم عليه . وبرغم مجاورة الشيخ للباب لم يخرج بل انتظر حتى يخرج الناس ولعله تجنب لئلا زاحمهم فيتضايقون من ملامسته لهم ويعكر عليهم فرحهموكم تأثرت حينما وجدت وجوه الجميع تطفح بالبهجة والسرور بينما كانت الدموع تنحدر على خدي شيخنا الفقير ودعتني الشفقة- أو لعله الفضول _ الى الانتظار حتى يخرج الجميع فأعلم ماذا كان يبكي الشيخ في ليلة العيد . خرج الجميع أو كادوا ، وبقيت أنا والشيخ في النهاية عند الباب . فانتظرني حتى أتقدمه ، ولكنني قلت له : بل تفضل أنت يا ابي . رفع الشبخ رأسه الي في امتنان ووداعة ، ولا زالت الدموع تبلل خده ، وقال وهو يخرج : شكرا لك يا بني . قلت وماذا يبكيك ؟ أجاب ( إني غريب يابني عن هذه الديار ) قلت ولكن الليلة ليلة عيد وبهجة ، أجاب ( قلت لك يابني إني غريب وغريب في ليلة العيد ، لا أجد من يضع يده في يدي ويحييني تحية الميلاد) مددت يدي الى جيبي وأخرجت قروشا قليلة اردت ان أضعها في يده، وظننت إنني تفضلت عليه بمنة. ولكنه نظر إليً في وداعة وقال ( شكرا يابني لست بحاجة الى نقود، فأنا غريب وفي حاجة الى مأوى ) فأحسست بأنني مقدم على تضحية عظيمة ، وقلت في شئ من التردد تستطيع أن تنام في حديقة داري الى الصباح، فتنهد الشيخ وأجابني ( ( ألا ليتك تقبلني يابني فإني غريب ) فقلت نعم أنا مستعد أن تنام في حديقتي الى الصباح. فعاد الشبخ تنهده وقال ( بل ليتك تقبلني يابني فاني غريب ) نظرت الى الشيخ متعجبا متسائلا فاستلفت نظري ظهره المنحني وكأنه يحمل على كتفيه ثقل الأجيال، فسالته ، وكم لك على الارض من سنين ؟
فأجابني : لقد ولدت منذ 2006 عاما على هذه الارض فلم أجد من يأويني ساعة مولدي ، وظللت هذه القرون غريبا ابحث عن مأوى في القلوب، فكنت أطوف بالالوف العديدة حتى أجد واحدا يقبلني ، واليوم أتيت الى بيتي والى أولادي والى خاصتي ، أتيت الى من يحتفلون بمولدي ويتحدثون عن تواضعي وعن قساوة قلوب سكان بيت لحم الذين لم يسمحوا لي الا بحظيرة البهائم ولكن الحق الحق اقول لك أن البهائم قد سمحت بمبيتي في مذودها في بيت لحم ، أما شعبي وفي كنيستي، أما حيث الفقر يمتدح بالقول ويزدري بالفعل. أما حيث لا يحب الانسان ويحترم لشخصه، بل للباسه وثروته ، واما حيث تسجدون لي وتعبدونني في الظاهر وترذلونني وتطردونني في الواقع . فإني غريب عنكم، وغريب عن أعيادكم التي تحتفلون بها لمجرد العادة، وليس بالروح والحق. نظرت الى الواقف أمامي وإذ به يمضي ويختفي...
ولا زال صوته يرن في أذني قائلا ( ألا ليتك تقبلني يا بني فإنى غريب ) . انهمرت الدموع من عينى غزيرة . وخررت أمام عتبة الكنيسة متضرعا طالبا الصفح ممن ظللت أعبده في رياء مكتفيا في الاحتفال بعيده بالملابس والمأكولات وأنا أنكره بخضوعى لتقاليد العالم ومستوياته الخاطئة التي تجعل من الناس مراتب بحسب ما يملكون من ذهب وفضة ، ولأول مرة احتفلت بالعيد لا لمجرد الاحتفال بل تمجيدا للمولود الإلهي وتقديسا لكل ما في حوادث مولده من عبر ومبادئ عالية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق